دراسة: التعديلات الدستورية من منظور الفقه الإسلامي

أردوغان وافق على نقل الدفعة الأولى من القوات التركية إلى القاعدة العسكرية في قطر

أثارت التعديلات الدستورية التي تذهب إلى التحول للنظام الرئاسي عن النظام البرلماني في تركيا ، والتي سيجرى عليها الاستفتاء في السادس عشر من أبريل نيسان المقبل كثيرا من اللغط وتناولتها الانتقادات ، وتصارعتها الاعتراضات ، وشنت عليها حملات كبيرة في دول الاتحاد الأوربي على المستوى الرسمي ، واتجه الإعلام الغربي في ذات الخط محذرا ومؤلبا الرأي العام التركي من خطورة التصويت ب ” نعم ” على هذه التعديلات التي ستصنع من الحاكم ديكتاتورا وتهدم الحريات كما يصورها، وتجعل من تركيا إحدى الجمهوريات المستبدة وسط القارة العجوز.

فهل – حقا – النظام الرئاسي شر محض؟ وهل – صدقا – ستصنع التعديلات ديكتاتورا ؟ وهل ستتراجع الحريات إزاء صلاحيات الرئيس المقترح منحها له في التعديلات المرتقبة؟

ما أحب أن أبدأ به هو أن للنظام السياسي في أي دولة أسسا ومبادئ يقوم عليها بناؤه ، بغض النظر عن عالمية هذه الأسس أو محليتها، عادلة كانت أم جائرة، محدودة أم شاملة، عنصرية أم منفتحة.

ولقد كان من أهم المبادئ الدستورية التي قررها الإسلام في الفقه السياسي الإسلامي والتي يقوم عليها نظام الحكم الحرية والشورى والعدل والمساواة ومساءلة الحكام ، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

وإن أي نظام لا يكون في حقيقته إسلاميا حتى وإن رفع لواء الخلافة إلا بقدر ما يتمثل هذه المبادئ في واقعه .

وقد اشتملت كل النماذج الدستورية الإسلامية التي أعدت في نهاية القرن الماضي عل مبادئ الحرية والمساواة والشورى والعدل ومساءلة الحكام، وأكدت عليها بشتى الوسائل ، ما يعد الاتفاق عليها من الركائز التي لا يجوز بحال تجاوزها.

جاء ذلك في النموذج الذي وضعه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تطبيقاَ لتوصية المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد بالقاهرة في ذي العقدة 1397هـ، 3 أكتوبر 1977م.

كما جاء في النموذج الذي وضعه الدكتور مصطفي كمال وصفي في ربيع الثاني 1400هـ ــ مارس 1980م.

كما ورد بالنموذج الذى أقره المجلس الإسلامي العالمي في إسلام آباد 6 من ربيع الأول 1404هـ، 10 ديسمبر 1983م.

كما ورد في النموذج الذي أعده المستشار على جريشة .

تلكم مقدمة وتوطئة تعطى إلمامة سريعة وصورة كلية  عن أصول الحكم والمبادئ العامة التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي ، وتمهد لتناول قضية التعديلات الدستورية التركية المزمع الاستفتاء عليها في منتصف شهر أبريل نيسان 2017  ، من منظور شرعي .

معالم رئيسية :

وبين يدى تناول هذه القضية نحدد خطوطا عامة ، ومعالم رئيسية ، نراها أرضية مشتركة ، ومسلمات عقلية وشرعية ينبغي أن تكون محل اتفاق بين الجميع ، ننطلق منها لتكييف المسألة والحكم عليها.

وفيما يلى أعرض لهذه المعالم الرئيسية :

أولا : هناك مبادئ عامة اعتبرها علماء السياسة الشرعية مرتكزات رئيسية يقوم عليها الحكم الإسلامي ، هذه المبادئ تتمثل في الحرية والشورى والعدل والمساواة ومساءلة الحكام على النحو الذى أشرنا إليه آنفا، ويقترب النظام من الإسلام بقدر تمثله للمبادئ الإسلامية وتحققه بها .

ثانيا : لا يستطيع الباحث أن يعطى حكما عاما مطلقا بقرب نظام معاصر من النظام السياسي الإسلامي سواء الرئاسي، أو البرلماني ، أو المختلط، ولكن الذى أستطيع أن أقرره باطمئنان شديد هو أن أي نظام يقترب بمفرداته من مبادئ الإسلام العامة في الحكم من الحرية والشورى والعدل والمساواة ومساءلة الحكام فهو الأقرب للإسلام .

ثالثا : النظام الرئاسي ليس نمطا واحدا  في كل الدول التي تطبق النظام الرئاسي، وكذلك النظام البرلماني ليس نمطا واحدا في كل الدول التي تطبق النظام البرلماني., وكذا النظام المختلط ، ومن ثم ينبغي أن يكون الحكم منصبا على المواد الدستورية الواردة في النظام الرئاسي أو البرلماني  أو المختلط ، ثم يكون بعد ذلك الحكم عليها بحسب قربها من مبادئ الإسلام أو بعدها ، فلا النظام البرلماني هو الأقرب دائما ، ولا النظام الرئاسي هو الأصلح بإطلاق ، ولا النظام المختلط هو الأقرب للمصلحة بصورة عامة .

ويكاد يجمع المحللون السياسيون على أن لكل نظام من هذه الأنظمة عيوبا ومزايا وأن نجاح كل نظام أو فشله يخضع لعناصر عديدة، منها طبيعة الشعب، أسلوب الانتخابات التشريعية والرئاسية، الخريطة السياسية للبلد، وثقافة الشعب (نوعا ومقدارا) ، نوعية التحديات السياسية

والاجتماعية والأمنية و الاقتصادية أمام الدولة ، وغيرها، وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون أحد هذه الأنظمة هو الأفضل دائما.

رابعا : صاحب الشأن الأول وصاحب الكلمة الفصل فى هذه التعديلات هو الشعب التركى ، وهو الذى يحدد مصلحته وأهدافه ، فى إطار اجتهاداته وتجاربه السياسية ، وخبرته بالحزب الحاكم والأحزاب الأخرى ، وتوخيه لمصلحته العامة، وسعيه للنفع العام ، وليس لأحد أن يتدخل في الشأن الداخلى التركى؛ وإلا اعتبر ذلك انتقاصا من إرادة الشعب التركى  والإدارة التركية ، وليس أحد بوصى على قراره وإرادته وشأنه .

وهل تدخل أحد فى الشأن البريطانى حين قررت الحكومة إجراء استفتاء شعبي على استمرار بقاء بريطانيا فى منظومة الاتحاد الأوربى أم لا ؟ لماذا يتدخلون إذن فى الشأن التركى الخالص ؟ هل هذه هى الديمقراطيات واحترام إرادة الشعوب التى ينادون بها ؟ وهل هذه هى الحريات العامة التى صدعوا بها رؤوسنا ؟ أم أن ذلك من حقهم فقط ؛ أما إذا ما تعلق الأمر بشعب مسلم انقلبت الموازين ، وازدوجت المعايير ، وكيل بمكيالين .

المسألة اجتهادية تتغيا تحقيق المصلحة ودرء المفسدة:

أقرر أيضا أن  المسألة اجتهادية ، وهى مسألة تدخل فى عمق قضايا السياسة الشرعية ، أو قضايا الفقه السياسى الإسلامي المعاصر ، وكما هو معلوم أن أكثر مسائل الإمامة ( الرئاسة ) وأحكامها مسائل فقهية يحكم فيها بموجب الرأي الأغلب ، كما قال أبو حامد الغزالى ..

خطورة الواقع التركى فى ظل هيمنة المؤسسة العسكرية :

 ومدار الاجتهاد في المسألة هو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة فى ظل المخاطر التى تتهدد الدولة ، ولا يخفى على ذى عينين خطورة ما أقدم عليه المتربصون بالتجربة الديمقراطية التركية الوليدة فى الداخل والخارج ، والذين أرادوا الانقلاب على الحزب الحاكم ورئيسه ، وهو يمارس الديمقراطية ، والصلاحيات فى يده محدودة ، ويده مغلولة ، ولولا ألطاف الله لكانت تركيا اليوم إحدى جمهوريات الموز ، ولكان كل قيادات الدولة المنتخبين من الشعب معلقين على أعواد المشانق ، وكذا الآلاف من المؤيدين لهم مثلما حدث فى انقلاب عام 60 على الرئيس عدنان مندريس ، ومثلما يحدث مع كل انقلاب عسكرى دموى على إرادة الشعوب .

ولو حدث ذلك  لكان للكثيرين الغيورين على التجربة الديمقراطية الناشئة فى تركيا ، والذين يأخذون على الحزب الحاكم اليوم رغبته فى الانتقال إلى النظام الرئاسى خوفا من التفرد بالسلطة ، لكان لهم أن يعيبوا عليه عدم توقعه لهذا الانقلاب ، ولاتهموه بالغفلة والسذاجة كما اتهموا رئيس مصر وحزبه من قبل ، ولبدت عليهم أمارات السخط فى هيئة سؤال متكرر : لماذا لم يأخذوا حذرهم ؟ وحين يأخذون حذرهم، بمثل هذه التعديلات الدستورية والتى لن تقر إلا بإرادة الشعب التركى، نعود فنقول : هذا خروج عن النظام البرلمانى ، وكأن النظام البرلمانى صنم مقدس يعبد من دون الله .

الوسائل لها حكم المقاصد:

لا يغيب عن بال أحد وهو ينظر هذه القضية رفضا أو قبولا ، استحسانا أو استهجانا ، أن يضع الواقع نصب عينيه ، فليس النظام البرلمانى هو الأولى بإطلاق ، وليس النظام الرئاسى هو المقدم بإطلاق ، بل قد يكون النظام البرلمانى مناسبا فى بلاد تتعدد فيها الأعراق والأديان والأحزاب ، وتتجاذبها الاختلافات ، وتتوزعها المصالح والأهواء ،  وقد  يكون النظام الرئاسى مناسبا فى بلاد استقرت فيها الديمقراطيات ، واستحدثت وسائل لتقليم أظافر الحكام ، ونظمت فيها القوانين والأوضاع بحيث تكون كلمة الشعوب هى القول الفصل والحكم العدل فى أى خلاف أو خروج عن القوانين .

وقد يكون النظام الرئاسى – أيضا – مناسبا فى مرحلة ما بهدف إقرار الحريات وتعظيم إرادة الشعوب المغلوبة ، وتصحيح الأوضاع الخاطئة السابقة ، وفك القيد ورفع التكبيل المقيد ليد الحاكم المنتخب شعبيا من اتخاذ إجراءات وقرارات تصحيحية تعيد الأمور لنصابها الطبيعى ، وتفكيك الألغام التى زرعتها أيدى الحكام السابقين أعداء الشعوب من خلال مواد دستورية مفخخة تحول – باستمرارها – دون أى إصلاح أو تقدم أو إنجاز أو جر منفعة ودفع مضرة.

ولذلك قعد علماؤنا قاعدة عظيمة فى هذا الصدد وهى أن الوسائل لها حكم المقاصد ، ، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل ، كما قال العز بن عبد السلام ، وقعدوا كذلك قواعد منها أن “الأمور بمقاصدها ” ، وأنه ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ” ، ” وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز” .

ومن ثم ينبغى النظر إلى الواقع والهدف من تغييره وفق رؤية مقاصدية تنشد تحقيق العدل والحرية والمصلحة العامة وإزاحة المفاسد من الطريق ، وإزالة العوائق من طريق الحياة السياسية ، ووفق القاعدة الكبيرة التى تقول لا بد فى أحكامنا من مراعاة مقاصد الحق ومصالح الخلق .

فقد يكون الخروج على النظام البرلمانى الذى يعد أنسب أنظمة الحكم المعاصرة والذى استحسنه كثير من الساسة والمحللين – وإن كانت له عيوبه – قد يكون الخروج عنه هو المحقق للمصلحة فى بلد ما ، وزمن ما ، وقد يكون الالتزام به هو نقيض المصلحة فى الحالة التركية الراهنة. وكما هو مقرر لدى الأصولين أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد والأشخاص ، وقرروا أيضا أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.

ولهذا اعتبر مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث فى دراسة جديدة له نشرت بتاريخ 12/ مارس 2017 أن الهدف من حزمة التعديلات الدستورية الأخيرة في تركيا ليس تغيير النظام البرلماني إلى رئاسي فحسب؛ بل إنها معركة مفصلية قد تسدل الستار على حقبة زمنية طويلة من تاريخ الصراع مع المؤسسة العسكرية؛ وذلك بإلغاء محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم العسكرية الإدارية العليا، وتحويل جميع القضايا العسكرية إلى محاكم مدنية استئنافية .

وما أراه أن التحول الحالى من النظام البرلمانى إلى النظام الرئاسى فى الحالة التركية حال تمت الموافقة على التعديلات الدستورية إنما هو فى حقيقة الأمر تحول نحو انتصار إرادة الشعب على إرادة المؤسسة العسكرية ، والخروج عن هيمنة المؤسسة العسكرية إلى إقرار دولة الحريات ، وإقامة دولة القانون .

الواقع التركى والنظام البرلمانى :

كما لا يغيب عن عقل الباحث فى هذه القضية تجربة الأتراك مع الحكومات الائتلافية  فى ظل النظام البرلمانى القائم حاليا ، وهى تجربة مريرة حافلة بالصراع السياسي والإخفاقات الاقتصادية، ومن هنا جاء شعار: “وداعاً للحكومات الائتلافية” ضمن حملة مؤيدي التعديلات الدستورية، لأن الحكومة التي سيشكلها الرئيس ستكون أطول عمراً؛ لأنه لا يحق للبرلمان أو الأحزاب إسقاطها أو اختيار أعضائها، كما تذهب إلى ذلك بعض التحليلات .

فضلا عن الواقع المزرى لأحزاب المعارضة وعلى رأسها  الحزب الجمهوري أبرز الأحزاب المعارضة ، الذى وصف بأنه  يعارض من أجل المعارضة ،  وأصبحت معارضته من باب المناكفات السياسية التى تعرقل المسار الإصلاحى ، ولا ترقى لطموح الشعب ، ولا تقف على همومه وآلامه وآماله .

كما لا يخفى على الشعب التركي حساسية الوضع في محيط تركيا، وإدراكه للمخاطر التى تتهدد تركيا خاصة الاقتصادية ، وسعي بعض القوى الدولية لتحجيم دورها، لا سيما بعد تراجع  الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي في الآونة الأخيرة، فضلاً عن ضلوع الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة الانقلاب الفاشلة.  كما جاء فى إحدى الدراسات البحثية .

وهذا بطبيعة الحال ينبغى أن يدفع الأتراك إلى البحث عن سلطة قوية، قادرة على التعامل مع أخطار بهذا الحجم ، والوقوف في وجه التحديات الأمنية والاقتصادية، بصرف النظر عن المثالية الديمقراطية، كما يرى بعض المحللين .

هل نظام الرئاسة فى فرنسا وأمريكا معيب ؟

لماذا هذه الضجة الحادثة فى أوربا من هذه التعديلات ؟ هل هذا النظام الرئاسى سيىء ومعيب ويصنع من الحاكم ديكتاتورا بالفعل ؟ إذا كانت الإجابة ب ” نعم ” فلماذا تعتمده أعرق الديمقراطيات فى العالم فى دستورها فى أمريكا وفرنسا ؟ وإذا كانت الإجابة ب “لا” فلماذا يهاجمون هذا التوجه فى تركيا ، ويشنون هجمة شديدة تنفيرا وتخويفا للشعب التركى من هذا التوجه ؟ ولماذا يشن الإعلام الغربى حملة شعواء على التعديلات ، ويوعز للعامة بأن التعديلات شر محض ، وفساد عريض ، وضرر ماحق ؟

حقا صدق الشافعى حين قال لمن سأله كيف يعرف أهل الحق؟ قال : اتبع سهام العدو ترشدك إليهم.

هل الدعوة إلى النظام الرئاسى بدعة ابتدعها أردوغان ؟

يكاد يحصر كثير من المعارضين للتعديلات الدستورية – حتى من الإسلاميين – أن هذه التعديلات رغبة لدى الرئيس أردغان ، لاستمراره فى الحكم صراحة وتشبثه به ، وكأن الحزب ليس لديه غيره ، والحقيقة التاريخية تأبى قبول هذا التصور .

فلم تكن الدعوة إلى النظام الرئاسى بدعة جديدة ابتدعها أردوغان ، ولم تكن فكرة إصلاحية للنظام السياسى فى تركيا استحدثها حزب العدالة والتنمية الحاكم ، حتى لا يتمحور النقاش فى التعديلات حول شخص أردوغان ، والزعم بأنه يريد أن يستمر فى الحكم إلى عام 2029 م  ، وأن الصلاحيات يمكن أن تصنع منه ديكتاتورا أو حاكما مستبدا ، بل الحقيقة التاريخية الثابتة تؤكد أن التحول إلى النظام الرئاسى كان حلما يراود كبار الساسة والحكام السابقين ورواد الإصلاح فى تركيا ، الإسلاميين منهم والعلمانيين ، ولكن حالت ظروفهم وزمانهم دون تحقيقه، فى وقت كان للمؤسسة العسكرية الكلمة الفصل فى الدولة ، ولعل فشل الانقلابين العسكرىين الأخيرين ( 2009 – 2016 ) هما السبب الأكبر الذى أغرى الحزب الحاكم بالإقدام على هذه الخطوة ، بعدما ضعفت القبضة العسكرية على الحياة السياسية ، وهذا ما أكدته دراسة مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث .

تقول الدراسة :إن الدعوة إلى النظام الرئاسي مطلب قديم جديد في تركيا، فقد طالب بذلك الرئيس (تورغوت أوزال)، ومن بعده الرئيس (سليمان ديميرال) الذي قال: “كنت أفضل أن أجلب النظام الرئاسي إلى تركيا، وهذا الأمر عقدة في داخلي لأنني لم أتمكن من تطبيقه”. وطالب بذلك أيضاً نجم الدين أربكان، وقرَنه بالتنمية والاستقرار السياسي، أما زعيم الحركة القومية السابق (ألب أرسلان توركيش) فكان أكثر تشدداً حول تطبيق النظام الرئاسي، فقد قال: “إن عصرنا هو عصر السرعة والقوة، لذلك ندافع وفق ما يليق بتاريخنا وتقاليدنا عن النظام الرئاسي”  .

ورغم مرور الدستور التركى بثلاثة استفتاءات شعبية (1987، 2007، 2010) منذ العام 1987 إبان حكم الرئيس تورغوت أوزال وحتى العام 2011، اثنان منها في عهد حزب العدالة والتنمية، كانت التعديلات تدور حول المشاركة السياسية، والحريات العامة والخاصة، والشؤون القانونية والمدنية، وعلى الرغم من تعديل أكثر من ثلثي المواد الدستورية، لكنَّ أحداً لم يجرؤ على المساس بمواد تتعلق بنظام الحكم كما هو حال الاستفتاء الحالي؛ وذلك لحسابات كثيرة، أهمها ضلوع المؤسسة العسكرية في الحكم، وضعف دور الشعب في المعادلة السياسية آنذاك.

ومن الطبيعى لرئيس منتخب من قبل الشعب له مشروع إصلاحى أن لا يبقى رئيساً صورياً منزوع الصلاحيات ، وأن يتجه نحو النظام الرئاسى ليتمكن من تحقيق مشروعه الإصلاحى، حتى إن أردغان يعد النظام الرئاسي هو الذى سيحدد مستقبل تركيا ونفوذها على الساحة الدولية.

 أبرزالتعديلات الدستورية المقترحة اعتراضات وردود:

دعونا إذن من الوقوف على ألفاظ النظام الرئاسى أو البرلمانى أو المختلط ؛ لنناقش أبرز المواد المطروحة لنقرر مدى قربها أو بعدها عن المقررات الشرعية الثابتة والقواعد العامة الضابطة ، ومدى قبولها – عقلا ومصلحة – لدى الشعب التركى  .

وفيما يلى توضيح لأبرز القضايا التي دارت حولها المناقشات :

إلغاء المحاكم العسكرية:

يرى أردغان وحزبه والمتابعون للشأن التركى  أن القضاء  العسكرى يخضع لتأثير عدوه اللدود المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن الذي حمله مسؤولية الانقلاب الفاشل في 15 تموز (يوليو).

والتعديلات تنص على إلغاء المحاكم العسكرية التي سبق أن أدانت ضباطاً وحكمت على رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس بالإعدام إثر انقلاب 1960. فهل يختلف على إلغاء المحاكم العسكرية – بتاريخها الأسود فى تركيا- أحد يبحث عن الحرية ويعظم إرادة الشعوب وينادى بالعدالة ، وينشد مستقبلا أفضل لتركيا ؟

وفى هذا الجانب لن تكون تركيا حال أقرت التعديلات أول من تلغى المحاكم العسكرية ، ولن تكون بدعا بين الأمم ، وهناك تجارب لدول العالم مع القضاء العسكري بين المنع التام والحصانة العسكرية .

فبعض الدول تحظر إنشاء أي محكمة استثنائية تحت أي ظرف، وتمنع التقاضي خارج النظام الطبيعي ومنها: اليابان، والسويد، وسويسرا، واستراليا.

وبعض الدول اتجهت إلى إلغاء المحاكم العسكرية تمامًا في وقت السلم، مع السماح بإنشاء محاكم خاصة بوقت الحرب، مثل: النمسا، وفرنسا، والدنمارك، وهولندا.

وبعض هذه الدول تمنح الحصانة للعسكريين من المحاكمة أمام القضاء المدني، سواءً أثناء تأدية عملهم فقط أو في جميع الأوقات، مثل: مصر، والهند، وإندونيسيا، وبورما.

فرض حالة الطوارئ :

تعطى التعديلات الجديدة فى الدستور الحق للرئيس باتخاذ قرار فرض حالة الطوارئ ثم عرضه على البرلمان ، وتحصرحالة الطوارئ فقط في حال حصول “انتفاضة ضد الوطن” أو “أعمال عنيفة تعرض الأمة لخطر الانقسام”. ثم يعرض الرئيس القرار على البرلمان الذي يحق له اختصارالمدة أو تمديدها أو رفعها عندما يرى ذلك مناسباً .

والنظام الرئاسى المراد إقراره فى المرحلة الراهنة هو النظام الأقرب لكبح جماح الانقلابيين ، ووضع حد فاصل بين مرحلة ومرحلة : مرحلة هيمنة المؤسسة العسكرية والاستبداد ، ومرحلة فرض الإرادة الشعبية والاستقرار، فى ظل مخاطر الانقلابات العسكرية التى تتهدد الدولة التركية من حين إلى آخر والمخاطر الخارجية ، مما يعنى  تثبيت نظام قوي ، لديه القدرة على اتخاذ القرارات السريعة لمواجهة الأخطار والتعامل مع أي طارئ، بالسرعة الكافية.

بين الرئيس والبرلمان : حقوق أمام واجبات ، وصلاحيات نظير مراقبة ومحاسبة :

تعزز التعديلات الدستورية من سلطات الرئيس التنفيذية حيث تمكنه من تعيين كبار المسؤولين في القطاع العام بشكل مباشر بما يشمل الوزراء  ، وتعطى الرئيس سلطة إصدار المراسيم الرئاسية حول كل المسائل المتعلقة بسلطاته التنفيذية

 وفى المقابل تُتيح بعض المواد فتح تحقيق مع رئيس الجمهورية إذا اتهم ا أو حامت حوله شبهات بارتكاب جريمة، فيجوز للبرلمان أن يطلب فتح تحقيق مع الرئيس على أن يكون ذلك بغالبية ثلاثة أخماس الأعضاء، وستكون لدى البرلمان صلاحيات الإشراف على أعمال الرئيس ، ولا يمكن للرئيس إصدار مراسيم في مسائل بت بها القانون .

مما لا شك فيه أن التعديلات الجديدة ستمنح صلاحيات أوسع للرئيس ، ولكن فى المقابل تفسح المجال أمام البرلمان للتحقيق معه ، وهذا يتوافق مع المبدأ الإسلامى الذى يجعل مساءلة الحكام مبدأ أصيلا فى النظام السياسى الإسلامى . وهذا توازن مطلوب ، واعتدال مطمئن ، وقيد يبدد المخاوف التى تذهب إلى أن النظام الرئاسى سيصنع من الرئيس مستبدا أو متفردا بالسلطة .

تخفيض سن أعضاء البرلمان :

سيرتفع – أيضا – عدد أعضاء البرلمان من 550 الى 600، وسيتم خفض الحد الأدنى لسن النواب من 25 الى 18 سنة. وهذا توجه حسن يوسع قاعدة المشاركة البرلمانية لكل من يجد من نفسه القدرة على العطاء والإفادة ، ويمنح شريحة الشباب الثقة بأنفسهم فى المشاركة فى إدارة بلدهم وصناعة مستقبله ، ويبنى قيادات شبابية قادرة على قيادة البلاد ، ويخرج كوادر واعية ناضجة لإدارة الدولة ، وينمى الوعى ، وينضج الحياة السياسية ، ويصنع قادة من خلال ممارسة سياسية عملية بالفعل بعيدا عن التنظير والتأطير .

عدم الاستقالة من الحزب :

كذلك ينص التعديل على وجوب أن يكون الرئيس مواطناً تركياً في الـ40 من العمر على الأقل، ويجيز له الانتماء إلى حزب سياسي، علما أن الرئيس ملزم حالياً بالحياد ازاء الأحزاب.

وهل فى ذلك ما يعيب ؟ وهل الرئيس إلا بحزبه ؟ وهل يعان إلا بمن هم على نفس القناعة بمشروعه ؟ وهل يستطيع الرئيس وحده أن ينفذ مشروعه ورؤيته بدون ساعده الذى رشحه وقدمه للمسؤولية ؟ وهل يوجد فى أعرق الأنظمة الديمقراطية المعاصرة شرط كهذا ؟ هل يشترط فى النظام الرئاسى الأمريكى أن يتخلى الرئيس عن حزبه بعد فوزه ؟

الحقيقة أنه شرط جائر خبيث أريد به التضييق على الرئيس المنتخب ، حتى يسهل إفشاله وتعجيزه ، كما أريد به قطعه عن حزبه وهو عونه وسنده ، وسلخه عن ساعده الأيمن ، وتعريضه للهجوم بل والمساءلة القانونية حال استعان بحزبه.

 

سن الرئيس واستمراره فى الحكم حتى عام 2029 :

هناك من ينتقدون التعديلات بأنها من الممكن أن تبقى أردغان فى الحكم لسنوات طويلة قد تصل إلى عام 2029 .

وقد أجاب الرجل بأنه لا يضمن لنفسه أن يعيش إلى الغد حتى يزعم البعض أنه سيستمر إلى عام 2029 ، وإنما المبدأ فيما يرى الحزب أن هذه التعديلات ستنتقل بتركيا من حال إلى حال بغض النظر عمن سيأتى إلى السلطة ، سواء استمر أردوغان أم جاء غيره . مع الأخذ فى الاعتبار أن عمر أردغان الآن 63 عاما ، والزعم باستمراره فى الحكم حتى يصبح عمره 75 عاما فيه غلو كبير .

 

ختاما

فهذه دراسة علمية متجردة تعتمد على الأصول العامة ، والقواعد الفقهية ، والمبادئ الدستورية فى النظام السياسى الإسلامى ، تتغيا المصلحة ، وتتوخى النفع العام ، وتقرأ الواقع ، وتنظر فى المآلات ، وتراعى المقاصد ، بعيدا عما ستسفر عنه نتيجة الاستفتاء .

وفى ظل الإيضاحات السابقة ، فقد ترجح لدى أن الذهاب إلى تبنى النظام الرئاسى فى الحالة التركية الراهنة هو الأنسب  لكسر القيود التى تكبل الرئيس المنتخب شعبيا ، وتعيق مسيرة الإصلاح والاستقرار وتنتقص الإرادة الحاكمة ، وأن العدول عن النظام البرلمانى وإن استحسنه كثير من السياسيين والأحزاب فى العالم مبرر فى الحالة التركية ، وأن التعديلات الدستورية وسيلة لهدف ومقصد وهو تحقيق المصلحة العامة للشعب التركى ، وإمضاء إرادته ، والخروج من هيمنة المؤسسة العسكرية ، وقطع الطريق على أية محاولة للانقلاب العسكري فى المستقبل ، والانطلاق نحو الاستقرار والتنمية ، وأن الوسائل لها حكم المقاصد ، وليس من المصلحة فى شىء الجمود على اختيار النظام البرلمانى حتى وإن أدى إلى نقيض المصلحة 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها