السودان إلى أين؟

الدكتور حسن الترابي

في أحد المؤتمرات سمعت د. حسن الترابي يقول إن حال السودان لن ينصلح إلا بعد زوال كل الأجيال المعاصرة المتأثرة بالاستعمار، مبررا ذلك بأن العقلية الآن تتعامل وفق ما خططه الاستعمار للسودان.

حديث الشيخ أفزعني على خوفي لإحساسي بذات الشيء، ولكن ما اذهلني هو تغافل الشيخ عن حقيقة أن الأجيال القادمة سترث تلك الصفات ذاتها من الأجيال السابقة عبر التربية. ومع احترامي الكبير للشيخ الترابي، شعرت أنه وكعادته يريد شيئا بعيدا؛ فانتحيت مع بنات أفكاري بتروٍ: ماذا يقصد الشيخ بحديثه هذا؟ وأدركت إشارته الخفية وعتابه لإخوته بالجهاز التنفيذي للدولة (الحكومة) وقد كان وقتها رئيسا للبرلمان واستشعرت دعوته المبطنة للحكومة لاسيما وأنه تحدث في الجلسة ذاتها عن تخوفه علي التنظيم من الدنيا أن تغدق عليهم فيتنافسوها “كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلكون كما هلكوا”.
وما جعلني أربط الأشياء بعضها ببعض وقد كانت هناك موجه إعلامية عن الفساد الحكومي يقودها بعض الصحفيين لا سيما الإسلاميين منهم، فقال الشيخ قولته التي تداولتها الصحف ووسائل الإعلام مادة لفترة طويلة (إن الفساد بالحكومة بضع من المئة) وفي تقديري هذه الكلمات كانت دعوة صريحة لإصلاح نظام الحكومة وهذا في مطلع فترة ما قرب الانشقاق بالتسعينيات.

المقولة الثانية المفزعة هي للدكتور (جون قرنق) رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي أصبح نائبا لرئيس جمهورية السودان بعد توقيع اتفاقية سلام مع الحكومة عام 2005م وكلا الرجلين يعد من المفكرين حيث قال: “إن السلام لن يتم بالسودان مالم يعترف الجميع ببعضهم فلا إسلام ولا مسيحية بقادرة علي توحيد الناس ولا عروبة ولا زنجية قادرة أن توحد السودان بل الشيء الوحيد القادر على ذلك سودانية الجميع على الكل أن يعترف بالآخر ويحترمه ويتعامل معه كسوداني أصيل بكل عدالة في حق المواطنة”. خطاب الدكتور على أرض الواقع وبحكم ديانته وواقع المسلمين دفعه إلى ذلك الاعتقاد للرأي الذي تشكل لديه تجاه الساسة المسلمين، لكن الصحيح أن الدين قادر علي توحيد من هم أكثر من السودانيين عددا وتفرقا وشتاتا ولعلها هي كذلك رسالة.

وستقوم الكثير من الدول الحدودية للدويلات الجديد بخلق نزاعات حول الكثير من الأراضي

فاذا نظرنا لمقولة الشيخ حسن الترابي واستمرار العقلية الاستعمارية في الحكم بجانب نظرة دكتور جون قرنق في عدم وجود باعث واحد يجمع الناس ويجتمعون ويلتفون حوله غير السودانية وإذا استصحبنا انفصال جنوب السودان ومواقف المنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) بل حتي الحراك المسلح في دارفور فإن هذا يعطي مؤشرا إلى زوال كامل لدولة السودان وذوبانها من خارطة العالم أسوة بالاتحاد السوفيتي.

ودعوني أشير أيضا للمعلوم بأن تفتيت دولة السودان يخدم في المقام الأول أمن إسرائيل بل هو من أهم أولوياتها الاستراتيجية، من دون الخوض في التفاصيل، بجانب ذلك هناك أيضا ممن لهم مصالح في تفتيت دولة السودان وشرذمتها وتقليص دورها كدولة موحدة وقد يحدث هذا التفتيت لكن ماذا بعد هذا التفتيت؟
أول ما سيقع للدويلات الصغيرة الجديدة تقلص حدودها الخارجية فدولة شرق السودان لن تستطيع ضم الفشقات إليها ولا أن تحارب إثيوبيا الدولة ذات الإرث والقدم والخبرات والمكانة ولا دولة الشمال وقتها بقادرة أن ترسم حلايب وشلاتين ضمن حدودها ناهيك عن المطالبة بها.

وستقوم الكثير من الدول الحدودية للدويلات الجديد بخلق نزاعات حول الكثير من الأراضي بل والصراعات التي ستصل لدرجة الاحتلال أو القتال، ما سيجبر تلك الدويلات لغض الطرف عن انتهاكات دول الجوار لإدارة الصراع الداخلي الذي سينشب بين الدويلات المقسمة حول الحدود والذي سريعا ما سيصبح حربا بينهم وإبادات تقعدهم عن التصدي لأي هجمات خارجية، وبنشوب تلك الحروب وإن لم تكن  منظمة كانقلابات أمنية واعتداءات عشائرية كلها ستودي إلى انحسار الموارد الضخمة من الثروات البشرية والطبيعية وتضعف الدويلات الجديد، وقد تستولي عليها بعض دول الجوار أو قد ترتمي هي في أحضانها طوعا أو كراهية لحمايتها أو دعمها وبذلك يتلاشى السودان، حتى إذا ما فطن البعض وعقل وأراد إصلاح ذات البين وحتي إذا تم ذلك سيعود السودان بلدا منهكا مهلكا لا قدرة له على العطاء، ليظل تحت رحمة ووصاية دول الجوار ولا ندري إلى متي؟
لذا على الساسة اليوم قراءة التاريخ وكلام الكبار حفاظا على هذا البلد الحبيب الطيب إن كان للساسة قلوب يفقهون بها.