نور الدين عبد الكريم يكتب: حول آفة التعصب المذهبي

المسائل الخلافية لن تتوقف، ولن تتوقف كذلك ورود الآرء المختلفة في المسألة الواحدة، فهذا لا يعيب ولا ينقص ديننا. أما مشكلتنا فهي مع التعصب المذهبي، والفكر الذي يعتمد سياسة شيطنة الرأي الآخر. يتبع

نور الدين عبد الكريم

مشهد حصل أمامي عندما كنت في سن الطفولة، وما زلت أذكره حتى اليوم بتفاصيله، فبمجرد أن سلّم الإمام معلنًا انتهاء الصلاة؛ وثب أحدهم من الصف الأول، ودون سابق إنذار أو تصريح، ووقف أمام المصلين، وبدأ بسرد قصة “تقشعر لها الأبدان” حسب وصفه.

فقد شاهد رجلًا تبدو عليه علامات الصلاح والحصافة في محل حلاقة، يحلق لحيته ويترك شاربه!، اشتاط صاحبنا غضبًا أثناء سرد القصة، ثم ارتفعت نبرة صوته، وأطلق دعوة مدوية على الحلاق وزبونه في بيت من بيوت الله، وقال: “يقول له نعيمًا؟!، بل لا أنعم الله عليك ولا عليه، ولا بارك لكما في مالكما”. واستطرد  بعد ذلك في موعظته التي حثّنا وذكّرنا فيها بضرورة التمسك بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، واتباع نهجه وأوامره.
لا أقصد الحديث هنا عن حكم إطلاق اللحية أو إعفائها، فهذا ليس موضوع هذا المقال، ولكني استشهدت بهذه القصة كونها تتعلق بمسألة خلافية وردت فيها عدة آراء معتبرة، وقد ألف فيها الدكتور عبد الله بن يوسف الجديع كتاباً من حوالي 300 صفحة، درس فيه المسألة دراسة فقهية حديثية بشكل مفصل، وبمنهج شرعي وأكاديمي، عرض فيه ما ورد في هذه المسألة من آراء وأحكام.

تعدد الآراء من سمات الإسلام
هي مسألة خلافية كالكثير من المسائل الفقهية التي يرد فيها أكثر من دليل، وينتج عن ذلك أن يكون لها أكثر من حكم، فتعدد الآراء في المسألة الفقهية الواحدة لا يعد نقيصة في أمر الدين، بل هو من علامات حيويته، ومن أسباب ديمومته، ولكن الإشكالية تأتي من العقول المتصلبة التي تتعامل مع تعدد هذه الآراء.

تكمن المشكلة في تبني البعض رأيًا من آراء متعددة معتبرة، ويتمسك به، ثم يتجاهل بقية الاجتهادات التي وردت في المسألة، أو قد يستخف بها، ويخطئها، وربما يشيطنها ويفسق أصحابها.

هذه القصة، غفر الله لنا ولصاحبها، مثال بسيط لواقع نعيشه بشكل يومي، فالدين عند البعض أصبح مظهرًا عامًا، وقالبًا شكليًا، وتحول من كونه استنباطًا للأحكام الشرعية من أدلة ونصوص معتبرة، وبآلية اجتهادية متبعة، تحول إلى عادات وتقاليد مجتمعية، وموروث ثقافي، يُعامل فيه من يقول برأي آخر، معاملة الشخص الذي شذ عن رأي القبيلة او العائلة، وخرج عن معتقدها ومبادئها.

ذكرت في مقال سابق، أن من رحمة الله تعالى بنا، أن جعل ثلاثة أرباع أحكام ديننا الإسلامي ظنية، فبالتالي قد يصح في المسألة أكثر من رأي، ولهذا ثمة باب كبير في علم أصول الفقه يسمى باب التعارض والترجيح، يُعنى بالنظر في المسائل والأدلة الواردة في كل مسالة على حدة. حيث يركز الباحث في هذا الفن على النظر في النصوص المتعارضة الواردة في مسألة معينة، فينظر إلى صحة ثبوت هذه الأدلّة، ومفهوم وقوة دلالتها، وأسباب ورودها، ويراعي كذلك النظر في تاريخ ورود كل نص، ويُعمل كذلك قواعد اللغة العربية في فهمها، واستنباط المعنى المقصود منها.

فبالتالي ليس من الإنصاف أن يتمسك البعض بدليل واحد للحكم على المسألة، دون النظر إلى كل ما ورد فيها من أدلة، أو دون فهم لزمان وسبب ورود هذا الدليل، ولا بد كذلك من فهم هذا النص الفهم الصحيح، لاستنباط المعنى.

متبعون لا مجتهدون
وعلى ذلك من المطلوب من عموم المسلمين، أن يتبعوا رأي مذاهبهم التي يتبعون، أو رأي شيوخهم الذين يستفتون، فالاجتهاد في المسائل الخلافية له أهله ومتخصصوه، والمطلوب من الجميع إدراك أن في المسألة أحكامًا أخرى، جديرة بالاحترام والتقدير.

المسائل الخلافية لن تتوقف، ولن تتوقف كذلك ورود الآرء المختلفة في المسألة الواحدة، فهذا لا يعيب ولا ينقص ديننا. أما مشكلتنا فهي مع التعصب المذهبي، والفكر الذي يعتمد سياسة شيطنة الرأي الآخر، وضربه عرض الحائط، ولا أرى هذا الفعل إلا صورة مشابهة لصور الدكتاتورية، والاستعلاء، والتكبر، والطبقية.

يعجبني هنا وصف الأستاذ الدكتور محمد محروس المدرس لهذا الفكر، حيث يصفه بـــــــــ: “الإرهاب الفكري”، وحتى نصل لعلاج له، لا بد من الوقوف على أسبابه الاجتماعية، والنفسية، قبل النظر إليه من ناحية علمية فقط.
_______________

كاتب أردني وباحث في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه