نور الدين عبد الكريم يكتب: “اذكروا محاسن موتاكم”

كثر الاستدلال بهذا الحديث مؤخراً، وتم تداوله وتناقله في صفحات التواصل الاجتماعي، وفي الرد على من علّق على وفاة الكاتب محمد حسنين هيكل بذكر مواقفه المعارضة لثورات الربيع العربي..يتبع

 نور الدين عبد الكريم*

“اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم”.
كثر الاستدلال بهذا الحديث مؤخراً، وتم تداوله وتناقله في صفحات التواصل الاجتماعي، وفي الرد على من علّق على وفاة الكاتب محمد حسنين هيكل بذكر مواقفه المعارضة لثورات الربيع العربي، ومساندته وتأييده للإنقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ومواقفه المؤيدة للنظام على حساب الشعب زمن مبارك، والسادات، وعبد الناصر، والملك فاروق قبل ذلك.
صحة الحديث
ورد هذا الحديث في سنن أبي داود، وسنن الترمذي، ورواه كذلك الحاكم، والبيهقي، عن عطاء عن عبد الله بن عمر، ولم يروه عن عطاء إلا عمران بن أنس المكي، وقال فيه البخاري أنه منكر الحديث. وقال الترمذي والطبري أنه حديث غريب. لذلك ذكر هذا الحديث الشيخُ الألباني في كتاب “صحيح وضعيف سنن أبي داود”، ضمن الأحاديث الضعيفة، وكذلك ضمن الأحاديث الضعيفة في كتابه “صحيح وضعيف سنن الترمذي”.
فهذا الحديث قد حكم عليه بالضعف إذن، ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد وردت أحاديث أخرى صحيحة، أو حسنة، يعتبرها البعض شواهد له، أي مقوية للمعنى الذي أتى به، وذلك كالحديث المروي في البخاري: “لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا”. وحديث آخر رواه أبو داود: “إذا مات صاحبكم، فدعوه، لا تقعوا فيه”، وحديث رواه النسائي: “ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم هالكٌ بسوء، فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير”. وكذلك حديث: “لا تسبوا أمواتنا، فتؤذوا أحيائنا”.
فهذه الأحاديث بشكل عام تحث على ذكر محاسن الأموات، وتَذَكّرهم بالخير، والدعاءِ لهم لا عليهم، وحث الآخرين على ذلك أيضاً. ومن هذا الباب، نجد الكثير من الناس يتوقفون عن انتقاد أي شخص حال وفاته، ويشتاطون غضباً عند ذكر مظالم ومساوئ من غيّبه الموت، وكأن الموت يـجُبّ ما قبله. فحتى لو كان هذا الشخص قد انتهك حقوق غيره، وتسبب بإلحاق الأضرار بهم، فبمجرد موته تُطوى صفحته، وتُنسى جريرته!!
تعارض مع أدلة أخرى
المتتبع لبقية الأحاديث والأدلة الواردة في هذا الباب، سيلاحظ وجود تعارض بينها وبين الأحاديث السابقة، فقد ورد في صحيح البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مَروا –أي الصحابة- بجنازة، فأثنَوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟. فقال عليه الصلاة والسلام: “هذا أثنيتُم عليه خيراً، فوجبت له الجنة. وهذا أثنيتُم عليه شراً، فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض”.
ففي هذا الحديث لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن ذكر مساوئ المتوفى الثاني، بل بيّن لهم أن مصداقيتهم فيما عرفوا عنه من سيئات ستكون شهادة وحجة عليه يوم القيامة، وبالتالي سينال العقاب الذي يستحق، فلو كان النهي عن ذكر مساوئ الموتى مطلق، ويؤخذ على عمومه لما أقرّهم عليه الصلاة والسلام على ذلك. 
وكذلك ورد تعارض بين هذه الأحاديث، والحكم المفهوم من قوله سبحانه وتعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)؛ فيُفهم النهي أو حرمة ذكر المساوئ والسلبيات في هذه الآية عن الحديث السلبي بشكل عام، إلا في حالة التعرض للظلم، حيث يجد المظلوم نفسه مضطرا للتظلم، وطلب النصرة والإنصاف والعدل من الآخرين، أو تحذيرهم من التعرض لنفس ما تعرض هو له.  
وبناءا على هذا التعارض بين الأدلة، يمكن القول أن الأدلة المانعة عن ذكر مساوئ الموتى لا تطلق بشكل عام، وإنما ورد فيها التخصيص عند التعلق بحقوق الآخرين. فقد اتفق الفقهاء على قاعدة في الحقوق تقول: “حقوق العباد مبنية على المشاحة (أي المطالبة)، وحقوق الله مبنية على المسامحة”. ولذلك علّق الدكتور حسام الدين عفانة على عموم هذه الاحاديث قائلا: يرى كثير من أهل العلم أن عموم هذه الأحاديث مخصوص. ثم بين أن المنهي عنه هو غيبة الأموات، إلا إن كان الميت فاسقاً مجاهراً، فلا غيبة له. والظلم وأكل حقوق الناس أشد من الفسق وأسوأ منه، وهذا يجيز ذكر مساوئهم للتحذير منهم، والتنفير عنهم، ولاسترجاع الحقوق حتى لو بعد وفاة الظالم.
وفاة هيكل
يقول الكاتب الصحفي سليم عزوز في مقال يشهد فيه على حياة ومواقف الراحل هيكل: “هيكل هو في الصحافة أسطورة، وهو في السياسة يؤخذ من كلامه ويرد، لكن لم نسمع حديثاً إلا متناثراً عن هيكل الإنسان”. وثمة أيضا الكثير من المقالات والكتابات الموثوقة، والتي يذكر فيها أصحابها ممن عرفوا الرجل عن قرب، وسجلوا مواقفه وتعامله مع قضايا الأمة، فيمكن الرجوع إليها للحكم على ماضيه وتاريخه.
ثمة فرق بين أن يعصي شخصٌ ربه، بذنب لا يقع فيه ظلم ولا جور على أحد، وذنب ينتج عنه اعتداء على حقوق العباد ومصالحهم، بل وحتى أرواحهم. فالحديث عن الأول كشف وتشهير نهى عنه الشرع، وغيبة محرمة، والأولى فيه الستر. والحديث عن الثاني تحذير واقتصاص واسترجاع للحقوق. وقد شهدنا، وسيشهد غيرنا وفاة أناس لهم تأثير في تاريخ الأمة، نتج عن قرراتهم، أو مواقفهم، أو نصائحهم، أو آرائهم هلاك أرواح وضياع حقوق مئآت، بل آلاف العباد، فهل من المعقول أن ينسى التاريخ كل ذلك بمجرد وفاتهم؟! وهل يحرّم الشرع بيان ذلك للناس؟!
لا ندعي أننا نقف على باب الجنة ونملك تصاريح الإذن بالدخول، والعياذ بالله، وإنما ندعوا إلى إعطاء صاحب كل موقف مكانه المناسب، فثمة فرق بين الحكم على المصير الأخروي لشخص، وبين بيان مواقفه الدنيوية.
نسأل الله السلامة

_____________________________________________

*كاتب أردني، وباحث في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه