أفكار تافهة لرجل كسول

” إلى أعز وأحب صديق .. صديق أيامى السعيدة وأيامى التعيسة .. إلى الصديق الذى طالما اختلف معي عند بدء تعارفنا، ليصبح أقرب الرفاق إلي

إلى الصديق الذى لا يزعجني أبدا فينتقم منى، بالرغم من أنني كثيرا ما أطفأت توهجه ..

إلى الصديق الذى يلقى كل تلك المعاملة الباردة من كل نساء المنـزل، وتحدجه الكلاب بنظرات الارتياب، ثم يظل رغم ذلك قريبا دوما إلى صدري، بل وحتى يضمخني برائحة صداقة عميقة ..

إلى الصديق الذى لا يحكي لي أبدا عن أخطائي، الذى لم يحاول يوما أن يقترض منى قرشاً، والذي أبداً لا يتحدث عن نفسه …

إلى رفيق أوقاتي الكسولة، مسكن أحزاني، وحافظ سر أفراحي وآمالي ..

إلى أقدم وأضخم غليون لديَّ ..

أهدي هذا المؤلف الصغير .. عرفاناً وحبا ..

بهذا الإهداء يبدأ جيروم ك . جيروم ( 1859 – 1827 ) كتابه ” أفكار تافهة لرجل كسول ” الصادر عن كتاب الهلال بترجمة متميزة للعالم د.أحمد مستجير .

 

تستطيع أن تقضى وقتاً ممتعاً من خلال كتابة ساخرة تكتب ببساطة عبر منوال الحياة اليومي غير عابئة بشيء في الحياة سوى الكلمة الذكية اللماحة

وأنت حين تقرأ هذا الرجل لابد أن تقع في هواه كما حدث مع مترجمه د.مستجير الذى وصفه بقوله “أحببت هذا الكتاب، وأحببت مؤلفه جيروم جيروم ( 1859 – 1927 ) وستحب الكتاب ومؤلفه أنت الآخر، فنحن شعب يستطيع أن يقدر الفكاهة الرفيعة .

 يذكرنى جيروم دائماً بكاتبنا الساخر محمد عفيفي . يستطيع جيروم أن يرسم شخصياته ببراعة مذهلة حتى لتراها تتحرك أمامك تنبض بالحياة. من منا يمكنه أن ينسى شخصيات روايته ” ثلاثة رجال في قارب ” (  ترجمت فى روايات الهلال عام 1988 ). ثم إنك لا تستطيع أن تقرأ لهذا الرجل ثم تنساه . ستفتش بالتأكيد – مثلى – عن كتب أخرى له .لن تنسى أسلوبه الطلي، وطريقة سرده البهيجة . كتابته فكهة حبيبة، ولكنها في الوقت نفسه جلدة وحميمة، حتى ليخيل إليك أنه يتحدث إليك أنت شخصياً . ستعيد قراءة كل كتاب وقع تحت يديك من كتبه مرات ومرات، وفي كل مرة ستقترب منه أكثر وسيقترب منك أكثر، فتكتشف بين طيات كلماته شيئا طريفا جديداً، لم تنتبه إليه قبلاً . سيحدث هذا مع كل قراءة جديدة . وهو يقتنص الفكاهة من كل ما هو عادي ومألوف، من كل ما يمر عليك في حياتك اليومية من دون أن تلحظه، فيصيبك بالدهشة، إذ تجد أن أفكاره قد طافت بذهنك وأنت لا تدرى – هى بسيطة، تبدو بسيطة ( أو تافهة ) ولكنها في الحق عميقة وصادقة، ومؤكداً ليست تافهة – وكيف تكون كذلك وقد طافت بذهنك أنت الآخر ؟”.

من أمتع فصول الكتاب، وكل فصوله ممتعة: “عن الإفلاس” الذي صور فيه جيروم تلك الحالة التي تصادف مبدعا عميق الاحساس، يتأثر بأقل شيء ويحس بجرح كبير حين يشاهد العالم من حوله يتمتع بكل شيء بينما هولا يتمتع بشيء وهو صاحب الموهبة الكبيرة المتفردة، لكن مع كاتبنا يتحول الإفلاس إلى صفة تتمناها، وإن كنت لا تصدقني فاقرأه يقول :

” إنه لشيء غريب حقاً .. جلست الآن وفى نيتي أن أكتب شيئا ذكيا مبتكرا، لكنني أبدا لم أستطع ان أفكر في أي شيء ذكى – على الأقل في هذه اللحظة . إن كل ما يشغل ذهني الآن هو حالة الإفلاس التي أعيشها . أعتقد أن السبب هو أننى وضعت يدى في جيبي . إنني أجلس دائما ويدى في جيبي – إلا إذا كنت في صحبة شقيقتي، أو بنت عمي، أو عمتي، ذلك أن أيا من هذه النسوة تثير معي من الشجار، أو من الحوار البليغ، ما يجعلني أستسلم فأدفع بها خارجا – أقصد يدي بالطبع . يعترضن لأن هذا ليس من الأدب . وليلعني الله إن كنت أفهم السبب في ذلك . أفهم أن يكون من قلة الأدب أن تضع يدك في جيب غيرك ( أو هكذا سيرى غيرك) فبالله عليكم أيها المتحذلقون، لماذا أنعت بقلة الأدب إذا أنا، وضعت يدى أنا، في جيبي أنا ؟!.. لكن، ربما كنتم على حق على أية حال، فلقد تذكرت الآن أنني قد سمعت البعض يدمدمون في وحشية عندما أفعل ذلك . كان هذا البعض من كبار السن . ونحن الشباب – كقاعدة – لا يمكن أن يستريح لنا بال إلا وأيدينا في جيوبنا . انعتونا – كما تحبون – بالسماجة والوقاحة، لكن اتركونا نضع أيدينا في جيوب بنطلوناتنا، وياحبذا لو كان بالجيب الأيمن بعض الفكة، وبالأيسر كبشة من المفاتيح . كذا يا أصدقاء نستطيع أن نواجه العالم” .

يصعب في الواقع أن نعرف ما تفعله بيدك – حتى لو كانت في جيبك وكان جيبك خاليا . منذ سنين، أيام أن كان رأسمالي متدنيا لا يزيد عن قطعة يقال لها ” بريزة ” كنت أتهور فأنفق منها قرشا، لا لسبب إلا لكى أحصل على الفكة فأشخلل بها، إنك لا تكاد تشعر بالإفلاس المدقع إذا كان جيبك يحمل تسعة قروش فكة، لا قطعة واحدة يقال لها “بريزة”. لو أننى كنت الغِرَّ المعدم الذى لا يمتلك سوى قرش، ذاك الذى يسخر منه أمثالي من ذوى المقام الرفيع، إذن لقمت بفك القرش إلى نصفين .

لدىَّ من الخبرة ما يكفى كي أتحدث بثقة عن موضوع الإفلاس . كنت ممثلا قرويا . فإذا ما طلبت منى بعض البيانات الإضافية – وما أظنك بفاعل – فسأضيف أننى كنت رجلا ذا “علاقة بالصحافة” . عشت على خمسة عشر شلنا في الأسبوع، وعشت أسبوعا بعشرة شلنات (واقترضت الخمسة) . وعشت أسبوعين بثمن معطف .

عجيب حقا ما يقدمه لك الإفلاس من تبصر في شؤون الاقتصاد المنزلي . إذا أردت أن تعرف قيمة النقود . فلتجرب أن تحيا على خمسة عشر شلنا في الأسبوع، ثم حاول أن ترى كم تستطيع أن تقتصد من أجل الملابس والاستجمام . ستكشف أنه من الحكمة أن تنتظر أمام البائع لتأخذ مليما تبقى لك . وأنه من الحكمة أن تمشى ميلا لتوفر قرشا، وأن كوب البيرة ليس إلا بنداً من بنود الرفاهية لا تغامر بشربه إلا في المناسبات النادرة . وأن القميص يمكن أن يستخدم أربعة أيام .

 

لتكن هذه التجربة إذن قبل أن تتزوج . ستكون خبرة رائعة . دع ابنك وريثك يحاولها أيضا قبل أن ترسله إلى الجامعة . عندئذ فلن يبرطم إذا ما منحته مئة جنيه في العام كمصروف يد

 

هناك من الخلق من تفيده كثيرا مثل هذه التجربة . هناك ذاك الشخص الخجول الرقيق الذى يرفض أن يأكل الضأن المشوي كما لو كان لحم قطط!  إنك تقابل أمثال هؤلاء التعساء في كل حين، وإن كنت لا تجدهم – والحمد لله – إلا في تلك المجتمعات المخيفة الرائعة التي لا يعرفها إلا الكاتبات الروائيات. لم أر قط واحداً من هذه المخلوقات البشرية ينظر إلى ما تحمله قائمة الطعام، وإنني لأشعر برغبة محمومة في أن أجره من قفاه إلى واحدة من تلك الحانات الشعبية في ” الويست إند ” ثم أن أدفع في حلقه أكلة بستة قروش: قطعة من بودنغ اللحم البقري (بأربعة قروش) وقدراً من البطاطس (بقرش) … ثم هناك ذلك الشخص المسرف الذى يتساهل كثيرا في أمور الفكة، ثم لا يفكر أبدا في أن يدفع ما اقترضه . هذه التجربة قد تعلمه شيئا من الحكمة . ” إنني لا أعطى للجرسون بقشيشا يقل عن الشلن. أنت لا تستطيع أن تمنحه أقل من ذلك. أليس كذلك ؟”.

هكذا أخبرني كاتب حكومي شاب كنت أتناول معه وجبة عشاء منذ أيام في شارع ريجنت . وافقته على أنه من المستحيل أن تمنحه أربعة قروش ونصف. لكنني أذكر أنى قد اصطحبته مرة لنأكل في مطعم أعرفه فقرب كوفنت جاردن، حيث يقوم الجرسون – إتقانا لعمله – بتشمير أكمامه، القذرة حقا، حال اقتراب الشهر من نهايته. أنا أعرف هذا الجرسون جيدا وأعرف أنك إذا ما منحته ما يزيد عن قرش فإنه يقوم في التو واللحظة بمصافحتك تعبيرا عن عظيم تقديره . هذا أمر أعرفه تماما . وهو لم يصافح الأخ المذكور .

كُتب الكثير الظريف عن الإفلاس، ورغم ذلك فهو ليس ظريفا ! ليس من الظريف أن تساوم من أجل قرش . ليس من الظريف أن يعتبرك الناس بخيلا شحيحا . ليس من الظريف أن تكون رث الثياب وأن تخجل من مكان سكنك .. لا، ليس هناك ما هو ظريف في الفقر ـ بالنسبة للفقير ـ  إنه الجحيم للشخص الحساس. وكم من رجال شجعان لهم بطولاتهم الهرقلية، كسر الفقر قلوبهم بآلامه الحقيرة .

ليست المتاعب ذاتها هى ما يصعب علينا تحمله . من منا يكره أن يخشوشن قليلا، إذا كان هذا هو كل ما يفعله فينا الإفلاس؟ أكان يهم روبنسون كروزو كثيرا أن يحمل بنطلونه رقعة ؟ وعلى الذكر، هل كان يرتدى بنطلونا من أصله؟ أنا قد نسيت . أم تراه كان يتجول كما نراه في المسرحيات؟ أكان يهمه كثيرا أن تبرز أصابع قدميه من الحذاء؟ ماذا يهمه إن كانت مظلته من القطن طالما كانت تحميه من المطر ؟ لم تكن أسماله البالية تضايقه بالمرة . لم يكن حوله أصدقاء يسخرون منه .

 إن الفقر في حد ذاته أمر تافه، إنما المؤلم هو أن يعرف الآخرون بفقرك . ليس البرد هو الذى يدفع رجلا بلا معطف إلى الهرولة بسرعة، سيخبرك أنه يعتبر المعاطف غير صحية، وأنه ضد حمل المظلات من ناحية المبدأ . سيحمر وجهه وهو يخبرك ذلك، ليس خجلا – لا سمح الله – لأنه يكذب، فهو يعرف أنك لن تصدقه. من اليسير حقا أن تقول إن الفقر ليس جريمة، كلا، سوى أن الناس يخجلون منه . لكنه رغم ذلك خطأ فاحش يوقع عليه العقاب . إن الفقير محتقر على طول العالم وعرضه .. يحتقره الشخص العادي كما اللورد،  ولن يستطيع كل كتاب العالم أن يجعلوا منه شخصا محترما إن المظهر عند الناس هو كل شيء .

يتعود الشخص منا على الفقر، مثلما يتعود على كل شيء بمساعدة طبيب نسميه الزمن، طبيب يعطيك الدواء على جرعات صغيرة الواحدة تلو الأخرى . تستطيع بنظرة أن تميز المتمرس فى الفقر من حديث العهد به، بين من خبره وتعود عليه وقاسى منه سنينا، وبين المبتدئ المسكين الذى يكافح كى يخفى بؤسه، والذى يعيش في هم مقيم خشية أن يكتشفه الآخرون . لا شيء يفصح عن الفرق بين هذين مثل الطريقة التي يرهن الشخص بها ساعته . ثمة شاعر لا أذكره قول : “إن طمأنينة النفس وأنت ترهن شيئا إنما تأتى من التمرس، لا الصدفة” .

ان جيروم ك جيروم  كاتب ينتمى الى أسلوب مارك توين ومحمد الماغوط ومحمد عفيفي ومحمود السعدني، ولولا المساحة لكتبت لكم عنه الكثير والكثير، فهو من الندرة والعبقرية التي لا يجود الزمان كثيرا بمثل سخريتها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه