هل العلم ذكوري بالفعل؟!

 

ذكوري، أبوي، بطريركي! تكاد لا توجد كلمات أكثر إشكالية في المجتمع في وقتنا الحالي من هذه الكلمات. وإن كنا نستطيع الاستعاضة عن كلمة “نسوي” الإشكالية بكلمة ” أنثوي “، فإن كلمة “رجالي” البديلة، ستعطي الانطباع بالحديث عن قطعة ملابس، أكثر من كونها ملائمة لنقاش فكري.

لذا لا مفر من طرح السؤال على هذا النحو، “هل العلم فعلا ذكوري؟”، مع التشديد على أن كلمة “ذكوري” هنا جاءت للتوصيف فقط، دون أن تكون محملة بكل المعاني السلبية، التي ترد للذهن مباشرة، عند سماع كلمة “ذكورية” ومشتقاتها.

للعلم تحيزاته أيضا:

من السذاجة الاعتقاد بأن هذا هو التحيز الوحيد للعلم، فالعلم يتهم بالتحيز الذكوري ضمن مجموعة كبيرة من التحيزات الأخرى.

 إن المجتمع العلمي مع ما ينتجه من معارف، ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعالم، لذا سيحمل بالتالي تحيزات هذه المنظومة، شاء أم أبى.

إن أرباب المال والسلطة، هم الذين يحددون أولوياتِ البحث العلمي، لكونهم مصدر التمويل الأوحد للمؤسسات العلمية، وهم يملكون في الغالب دوائر مشتركة من الاهتمامات والمصالح.

إن القوى السياسية الحاكمة هي التي تحدد الأفكار التي تستحق البحث العلمي، وبالتالي الدعم والتمويل والتسهيلات، وهي دوما أفكار متسقة مع أيديولوجيات هذه القوى، والتي يقوم العلم لاحقا بإضفاء الشرعية عليها.

 فمن أجل خدمة النزعة الكولونيالية  (الاستعمارية) مثلا، قام العلم في مرحلة ما من تاريخه، بالانحياز للعرق الأبيض، وبخدمة فكرة التفاضل الإثني بين البشر، وذلك من خلال دراسات الأنثروبولوجيا وعلم الوراثة.

 كما أننا نرى أن معظم الأبحاث الطبية والنفسية والاجتماعية في وقتنا الحالي، تطرح أسئلة بحثية تتفق مع افتراض “طبيعية” الشذوذ الجنسي، بسبب اتساق هذا الرأي مع المزاج السياسي الحالي، والأمر ذاته ينطبق على استبعاد الأسئلة البحثية التي تتلاقى مع الطروحات الدينية.

والجيش الذي يمثل أداة السلطة، وأحيانا مصدرها الأوحد، يقوم بتمويل وتوظيف قسم كبير جدا من العلماء في مؤسساته العملية، الأمر الذي يوجه البحث العلمي لتحقيق المصالح العسكرية للدول، كاختراع أنواع جديدة من الأسلحة والمعدات العسكرية، على حساب مجالات أكثر نفعا للبشرية.

وفي مجال الطب، نجد أن البحث العلمي يتركز على أمراض الأغنياء، كالسرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية، في حين تهمل أمراض الفقراء كالإيدز والملاريا وغيرها من الأمراض المعدية. أما الأبحاث العلاجية فهي تتركز على صناعة الأدوية، التي يدر بيعها الأرباح للشركات، في حين تُهمل الدراسات الوقائية المتعلقة بتغيير نمط الحياة، والتي لا تخرج نتائجها بسلع قابلة للبيع.

إن هيبة العلم تجعل الطعن بالنتائج التي يُتوصل إليها أمرا عسيرا، على الرغم من أن موضوعية هذه النتائج مهددة بجملة من الانحيازات. أما تحيز العلم الذكوري، فعلى غرار التحيزات الأخرى، كان له أيضا أسبابه الواضحة.

التحيز الذكوري للعلم:

إن استبعاد النساء من المؤسسات العلمية، أدى إلى أن يتحول العلم إلى منتج ذكوري بحت في معظم فروعه، لتصبح ذكورية مجالات عديدة مثل الطب والهندسة والفلسفة والاقتصاد والقانون وعلم النفس وعلم الاجتماع والإدارة وغيرها موضع تساؤل.

لقد أثرت علاقة الذكورة بالأنوثة في صياغة المعرفة نفسها، وكان المزاج العام للعلم ذكوريا على الدوام، حيث كان العلماء الرجال هم من يطرحون الأسئلة، ليدفعوا بالبحث العلمي إلى قنوات محددة، متناسبة مع وجهة نظرهم للحياة، في حين لا تملك النساء أي سلطة على توجيه البحث العلمي للمجالات التي يرينها مهمة.

ولقد تناولت الدراسة المنشورة عام 1985، في مجلة العلوم والسياسة العامة، التابعة لجامعة كامبريدج، تحت عنوان “العلم: اضطراب ذكوري؟”، موضوع ذكورية العلم بشيء من التفصيل.

لقد تحدثت الدراسة السابقة مثلا عن أن مجرد شيوع فكرة التفوق الذكوري على النساء في القدرة المكانية، أو في المهارات الإدارية، أو في الرياضيات، تجعل علماء الطب والاجتماع والوراثة والنفس، يطرحون بكثافة أسئلة بحثية تحاول إثبات هذه الافتراضات، ويتم التحيز دوما عند دراسة نتائجها، لاختيار التفسيرات المتناسبة مع هذه الافتراضات، بينما تُهمش النتائج التي تعارضها. الأمر المهم هنا هو ليس فيما إذا كان الرجال أكثر قدرة مكانية من النساء بالفعل أم لا، وفيما إذا كانوا أفضل من النساء في الرياضيات أم لا – على الرغم من أن هذه الافتراضات ما زالت محل سؤال – ولكن الأمر المهم هنا هو أن مجرد اختيارِ هذا الموضوع للبحث العلمي، ثم ترك العنان للافتراضات المسبقة، لتؤثر على التعامل مع النتائج، يقول لنا الكثير عن مدى تأثُّر مادة البحث العلمي ومناهجه بالقيم الاجتماعية السائدة.

وفي مجال علم الاجتماع بالذات حذرت الدراسة المذكورة، مما يسمى بـ “دراسات الرجال”، التي تعمم نتائجها على البشر، رغم أن عيناتها كانت مؤلفة من الرجال فقط دون النساء، ما يجعل المرأة تصبح غير مرئية على الإطلاق في هذا النوع من الدراسات، لتُقاس كإنسان دوما إلى النتائج القياسية للرجال. إن مثل هذه الأبحاث، تخرج دوما بنتائج تعزز الأفكار المسبقة المفترضة عن النساء، وهذه المرة أيضا بواسطة العلم، الأمر الذي يصعب عليهن كسر الحلقة المفرغة للتصورات المغلوطة عنهن!

أما الطب فإن له تاريخا طويلا من التحيز الذكوري، الذي جعله حتى وقت قريب يختلق مرضا كهيستريا النساء، تُشخص به كل النساء اللواتي يملكن أفكارهن الخاصة المختلفة، أو لا يبدين خضوعا كافيا لقيم المجتمع. كما أن اعتبار جسد الرجل هو الجسد القياسي، لا زال يؤدي حتى الآن إلى تأخر تشخيص بعض الأمراض لدى النساء، بسبب عدم دراسة الأعراض لديهن بشكل كاف، ولذا تموت النساء مثلا بالسكتات القلبية، بنسبة أعلى من الرجال، على الرغم من أنهن يصبن بها بشكل أقل. كما أن الأبحاث المتعلقة بوسائل منع الحمل، تركز جهودها على جسد المرأة، لتخرج العديد من طرق منع الحمل للنساء، وغالبيتها وسائل هرمونية ترفع احتمالية إصابة المرأة بالسرطان، دون أن يشكل ذلك هاجسا حقيقا لدى المؤسسات العلمية.

أما التاريخ فقد دفعت صبغته الذكورية إلى أن يتأسس علم التاريخ الجندري، الذي يحاول إعادة اكتشاف تاريخ النساء المنسي، ويتناول أثر الجنس على عملية تدوين التاريخ، وكذلك الأمر بالنسبة للاقتصاد النسوي، الذي يهدف لمعادلة الهيمنة الذكورية على النظريات الاقتصادية الحالية. كذلك تشكل الفلسفة التي كانت خالصة للرجال حتى وقت قريب أفقع مثال على ذكورية المعرفة العلمية.

وإن هذا التحيز الذكوري للعلم، وعلى الرغم من آثاره الكبيرة، إلا أنه لا يدعو بالضرورة إلى التشكك في نزاهة العلماء الرجال كأفراد، بقدر ما يدعو للتشكك بانحياز المنظومة بأكملها، والتي تجرف معها الأفراد.

وعلى الرغم من طرح بعض الحلول غير القابلة للتطبيق، كالدعوة لتأسيس مؤسسات علمية نسوية لموازنة هذا الانحياز، وطرح حلول أخرى أكثر عقلانية، كالتركيز على التنشئة الاجتماعية المتوازنة للإناث، وتطوير المناهج والأساليب التعليمية، إلا أن المجتمع العلمي يعترف أن التخلص من التحيز الذكوري للعلم، طريق طويل وشائك، خاصة وأن الأنظمة السياسية والبنى الاقتصادية القائمة، والتي تشكل العامل الأهم في الحفاظ على ذكورية العلم، متحكمة ومتجذرة وعصية على التغيير. لذا بشكل أو بآخر ستظل ذكورية العلم للأسف أمرا واقعا حتى وقت طويل.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه