العصابات والسّياسة.. كيف انتهى البعث إلى عصابة!

تمثال للأسد في ادلب

عصابة بيكي بلايندرز التي أوجدها الكاتب “جون دوغلاس”، وحوّلت إلى مسلسل أخذت من العصابة الحقيقية الاسم والمظهر الخارجي فقط. فرجالها أنيقون ويرتدون ملابس موحدة وقبعات يخفون داخلها أمواس الحلاقة التي تستخدم أحياناً للقتل. لن أتحدث عن الفرق بين العصابة الحقيقية التي عاشت في منطقة “برمنغهام” في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر والعصابة التي ظهرت في المسلسل والتي ابتكرها “جون دوغلاس” فقد كُتب الكثير عن الفرق بين العصابتين وما هو حقيقي وما هو متخيل. وكُتب أيضاً عن التّشابه بين العصابة وعصابة أخرى ظهرت عام 1920

يهمني في المسلسل المقولات التي تحيل إلى فكرة القذارة المتأصلة في اللعبة السّياسية.

كيف وصل رئيس العصابة “توماس شيلبي” إلى مجلس العموم البريطاني نائباً عن حزب العمال؟

يقول توماس شيلبي: “لقد صافحت يد الشّيطان وذهبت أبعد منه.”.

يد الشّيطان كانت “المضربون الشّيوعيون” استغل القائد توماس شيلبي “إحدى العضوات” لدخول الحزب والسّيطرة عليه وتقويضه من الدّاخل، وفي ذلك تكريس لدور الجسد النّسائي في الأعمال السّياسية القذرة”.

في اليوم الرّابع للإضراب قابل توماس مسؤولاً في حكومة تشرشل، ساومه على تسليم أسماء المنتمين للحزب، مع عناوين وأرقام هواتف لقادة الإضراب، مقابل أن يدخل انتخابات مجلس العموم البريطاني!

تفكيك أيّ خلية ثورية يحتاج لقائد عصابة يعرف كيف يهيمن عليها

كان من مصلحة حكومة تشرشل أن تقبل الشّروط لتنهي وضع الإضراب حين أوحى توماس للمسؤول أنّ قائد الإضراب يخطط لثورة مسلحة! كانت خطّته أن يُشكّل الحركة وينظّمها ويقودها بنفسه ثمّ يقوضها من الدّاخل. ثمّ يرتقي بمستوى الحركة.

تفكيك أيّ خلية ثورية يحتاج لقائد عصابة يعرف كيف يهيمن عليها.. لقد كان توماس جدياً أكثر من أيّ يوم آخر في حياته، وعى في لحظة حركة التّطور التي تفرض عليه ارتداء ثوب الدّبلوماسي ليكون غطاءً قوياً لرجل العصابات وأتباعه.

لقد نجح توماس في الانتخابات عن دائرته بأكثرية ساحقة. لم يُنسهِ منصبه الجديد أسلوب رجل العصابة في التّفكير والتّخطيط فكان يحسب لكلّ شيء حسابه قبل أن يقع. الابتزاز، الهيمنة، القوة، اتباع استراتيجية شفافة تشبه أسلوبه القديم حتّى مع أعضاء مجلس العموم الذين لم ينسوا أصله والطّريقة التي وصل بها للمجلس.

يزور تشرشل توماس شيلبي، وفي حوار عميق وغير مباشر عبّر الرّجلان عن أفكارهما المتقاربة. يدرك تشرشل توجهات توماس من اهتماماته وتوجهاته السّياسية من “نوع المشروب الذي يتناوله (اسكوتلندي) تفضيله السّجائر على السّيجار الهافاني” على الرّغم من أنّ أمّه ولدت في خيمة! (إشارة إلى أصله الغجري) لكنّ توماس يصحح لتشرشل بأنّ أمّه ولدت في قارب ضيّق وجَدَّته في خيمة!

لم يكن توماس مهتماً بوجود شهادة ميلاد ولم يكن هؤلاء الذين دخلوا المدارس وتعلّموا يعنون شيئاً بالنّسبة له؛ لإيمانه المطلق بأنّه يستطيع الوصول إلى ما يريد من دون أن يملك أصلاً نقياً وشهادة ميلاد وشهادة علمية.. لقد أدرك تشرشل من الحوار بينهما أنّ مُحدِّثه يقرأ الأدب اليوناني وأنّه مثقف يتقن الحديث الموارب وعبّر عن إعجابه بأسلوبه وصارحه بأنّه أجرى تحريات قبل قدومه لزيارته تأكد من خلالها أنّ التغيير الذي حدث في انتماء توماس إلى حزب فاشي جديد كان بهدف التّجسس عليه. وبأسلوبه الذّكي أعطاه الضّوء الأخضر ليفعل ما يريد. ففي رأيه أنّ الأعشاب الضّارة ستنبت من جديد مهما حاول تسميمها أو اقتلاعها ما لم يحرث الطّبقة العليا من التّربة ليزيل الجذور بشكل نهائي ويحرقها!

يدرك كلاهما اللعبة التي مارساها أثناء الحرب في الإقليم “الفلاندري” أحدهما كان تحت الأرض والآخر فوقها لكنّهما سعيا للنهاية ذاتها، والآن في الحرب الدّاخلية سيتّبعان الأسلوب ذاته ويتغاضى تشرشل عن خرق توماس للقانون في استخدام استراتيجيته الجديدة.

وبمجرد وصول حافظ أسد إلى السّلطة تحوّل الحزب إلى عصابة

هل صنعت العصابات السّياسة؟ أم السّياسة أوجدت العصابات؟

رغم ضدية السّؤالين السّابقين إلاّ أنّ الإجابة المنطقية أنّهما يشبهان بشكلٍ ما سؤال الدّجاجة والبيضة وكلّنا يعرف كيف تشكّلت العصابات الأمريكية إثر اكتشاف القارة وكيف تنامت هذه العصابات وتحوّلت فيما بعد إلى أحزاب سياسية تقود الولايات قبل أن تتوحد، ولو انتقلنا إلى مشرقنا التّعيس لوجدنا أنّ فكرة العلوم السّياسية بمجملها لم تدخل المنطقة إلاّ في وقت متأخر جداً، إذ ما يزال المشرق يتخبط بين فكرتي الغباء السّياسي والدّهاء السّياسي وما حدث في سوريا على سبيل المثال يضيء الفكرة قليلاً فحزب البعث نشأ نتيجة حاجة اجتماعية وسياسية ونشط بين الشّعب إلى أن تمكّن وبانقلاب سياسي سنة 1963 من الاستيلاء على السّلطة، وبمجرد وصول حافظ أسد إلى السّلطة تحوّل الحزب إلى عصابة فقد أقصى حافظ الأسد مؤسسي الحزب وقام بما أسماه الحركة التّصحيحية التي جعلت من الحزب مجرد أداة بيد الرّئيس ( رئيس العصابة ) مرتكباً أولى جرائمه الكبرى بداية ثمانينات القرن الماضي واستمرّ استيلاء العصابة على مقدرات البلاد إلى أن دمّرها الابن بغبائه السّياسي وانقياده الأعمى لداعميه الذين تقاسموا الكعكة السّورية. فإذا كانت المحصلة النّهائية لعصابة بيكي بلايندرز قد صبّت في السّياسة فإنّ المحصلة النّهائية لسياسة حزب البعث قد انتهت إلى فكر العصابات وسلوكياتها.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر