الفاعل والمفعول به في مهنة الصّحافة

كنت طفلا حين سمعت أول مرة بالفاعل والمفعول به وما يترتب على موقع الكلمة من أثر في إعرابها، وما زلت أذكر قول ابن هشام في شذور الذهب: “الفاعل هو ما قُدّم الفعل أو شبهه عليه، وأسنِد إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه” وهذا المذهب وما جرى مجراه هو المعتمد عند أهل النحو. أما المفعول به فهو “ما وقع عليه فعل الفاعل ومنه ما أُضمرَ جوازا في مواضعَ، ووجوبا في مواضعَ أخرى” [1] وخلال سنوات من العمل الصحفي كانت هذه القاعدة النحوية تترسخ في ذهني، وكنت أستحضرها في اجتماعات التحرير، وفي تعامل المحررين مع بعضهم ومع الأخبار.

كانت قواعد النحو تتجسد أمامي في شخصيات زملائي الصحافيين، فهذا مدير التحرير فاعل مرفوع لعلاقته الطيبة بصاحب المؤسسة، وذاك محرر مجتهد يتقن اقتناص الأخبار وتحريرها ويحسن اجتناب غث اللغة فلا يكتب إلا بسمينها، لكنه غير مسند إلى جهة تدعمه، وهو المفعول به في غرفة الأخبار..

الفاعل قد يأتي اسما ظاهرا وذلك دارج وكثير في اللغة، وقد يستتر وذلك أكثر شيوعا في مهنة الصحافة.. فكثيرا ما يكون المموّلون الفاعل المستتر الذي يتحكم في الفعل الصحفي.

قد يكون مصدر التمويل جهات حكومية أو خاصة، وقد يكون مصدره رجال أعمال أو أحزابا سياسية، ويأتي التمويل أحيانا في شكل إعلانات ضخمة ظاهرها التسويق لسلع أو منتجات معينة، وباطنها رسالة مفادها: “إذا أردتم استمرار إعلاناتنا عبر مؤسستكم، فتجنبوا الخوض في أي موضوع يمسّ مصالحنا، أو يرتبط بانتهاكات وشبه فساد أو تزويرٍ في منتجاتنا”

يأتي التمويل أيضا من جهات أجنبية.. وقد أشارت إيلين هيوم إلى ذلك في بحثها الموسوم بـ البعثات التبشيرية الإعلامية (Media Missionaries) فذكرت أن جهات في الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت أكثر من نصف مليار دولار في تمويل مشاريع إعلامية، ودعم صحفيين ببلدان مختلفة خلال الفترة الممتدة من 1994 إلى 2004.[2] ومن المؤكد أن هذا الرقم تضاعف خلال السنوات اللاحقة، خصوصا مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، ودورها في التأثير على الرأي العام العالمي، ومن المؤكد أيضا أن هذا الدعم -وإن كان يأتي بعضه سراً- لا يدخل في باب صدقة السر، وإنما يأتي لتحقيق غايات محددة، والتسويق لتوجهات معينة.

وعلى خطى الولايات المتحدة، سار الاتحاد الأوربي، وتسير الصين وروسيا وأغلب الدول العظمي التي تتنافس على تلميع صورتها ونشر أفكارها وتثبيت أقدامها في مناطق مختلفة من العالم.

الصحفي والجمهور

ثنائية الفاعل والمفعول به ظاهرة أيضا في علاقة الصحفي بالجمهور، فلكل مؤسسة إعلامية جمهورها المستهدف، وكلما نجح الصحفي في تحديد جمهوره ومعرفة المواضيع التي تهمه، مكّنه ذلك من اختيار نوع المحتوى الذي يجذب القراء والمتابعين. وهذه إحدى أبجديات الصحافة، فالخبر الذي يهم سكان منطقة ما، ويحدِث صدى واسعا بينهم، قد لا يلتفت إليه أحد في منطقة أخرى.. لأنه ببساطة لا يرتبط به، ولا يؤثر في حياته اليومية.

لكن عندما يصل الأمر إلى درجة التعاطي مع المواضيع بالاستناد إلى ما يعجب الجمهور، فتجد صحفيا يتجاهل أخبارا مهمة ومؤثرة في محيطه، خوفا من ردة الفعل المحتملة، فهذا يحوله إلى مفعول به.

وفي هذا السياق تقول الدكتورة أروى الكعلي الأستاذة بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس: نسمع كثيرا في اجتماعات التحرير تعليقات من قبيل: يجب أن نتجنب هذا الموضوع لأنه قد يفهم بشكل خاطئ في السياق الحالي، أو أن المزاج العام لن يقبل طرح هذا الموضوع الآن.. فكيف يمكن أن نعالج هذه المسألة مهنيا؟ وهل يجب أن نقدم للجمهور ما يطلبه أم ما يحتاجه؟

تقول أروى: أعتقد أنه علينا طرح المواضيع بشكل مهني يحترم أخلاقيات العمل الصحفي. لنفترض مثلا أن هناك شخصية سياسية تحظى بتأييد شعبي واسع، قد يصل إلى مستوى التقديس، وكنا نعمل على تحقيق استقصائي يكشف بعض مواطن الخلل في أداء هذه الشخصية، أو يسلط الضوء على فساد مالي متعلق بها.

من الجانب المهني علينا أن ننشر التحقيق، فنحن لسنا معنيين بالتودد للمسؤولين أو الجمهور، ولا نسوق منتجات تجعل “الزبون على حق دائما” بل نقدم خدمة للناس. لذا يجب ألا ينخرط الصحفي في معضلة غرف الصدى وتوكيد ما يراه الناس، لأنه بذلك سيتحول إلى أداة في يد الجمهور.. ولكن في نفس الوقت قد تفرض المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام تأجيل طرح بعض المواضيع، أو تعديل زوايا النظر، مع الحفاظ على الموضوعية والصدق والحياد.

إعلام الطوائف

يقال إنه لا توجد مؤسسة إعلامية مستقلة تماما، وهو قول فيه وجاهة، إذ لا يمكن لأي مؤسسة أن تستقل عن مالكيها. ومع ذلك فكثير من وسائل الإعلام تعمل وفق مواثيق شرف وضعتها لنفسها لضمان تقيّدها بأخلاقيات المهنة.

أما حين تتحول وسيلة الإعلام إلى ناطق رسمي باسم جهة طائفية، فهي بذلك تغدو مفعولا به لفاعل مستتر تقديره الطائفة.

يقول الصحفي اللبناني إبراهيم الشامي: لكل حزب في لبنان قناته التلفزيونية ومواقعه الإخبارية، وقد انعكس ذلك بشكل مباشر على أداء الصحفي وطريقة تناوله للأخبار في لبنان.

ولكي نفهم تأثير الانتماء الطائفي والحزبي على العمل الصحفي، نأخذ تغطية “قناة المنار” التابعة لحزب الله لحادثة إطلاق الصواريخ التي نفذها عناصره ضد موقع للاحتلال الإسرائيلي، واعتراض سكان قرية درزية لراجمة الصواريخ، مستنكرين تنفيذ مثل هذه العمليات من منطقتهم.

رأت “قناة المنار” في هذه الحادثة عملا بطوليا، واستخدمت مفردات الإشادة والتمجيد في وصفها، وغيبت أي صوت معارض في هذا السياق، ولم تشِر إلى موضوع القرية الدرزية، بل أظهرت بعض الآراء الداعمة للحادثة في تقرير ميداني أعدته بهذه المناسبة.

في الجهة المقابلة.. ضخّمت مؤسسة “صوت بيروت إنترناشونال” التي يموّلها بهاء الحريري شقيق رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، من تصدي أهالي القرية الدرزية لراجمة الصواريخ، ورأت في الحادثة استهتارا بأرواح المدنيين، وتساءلت عن دور الدولة في قرار الحرب والسلم، وتناولت الموضوع من زاوية تهاجم حزب الله وترى فيه “أداة لتحقيق مصالح إيران بالمنطقة”.

وما بين المعالجة الأولى والثانية تضيع الحقيقة، وتغرد كل وسيلة إعلام في سربها الذي لا يتسع لغير المنتمين لطائفة واحدة، وتصبح وسائل الإعلام أداة في يد الطوائف المتصارعة.

أنا أعرقل.. إذن أنا موجود

“داخل كل مسؤول تحرير ديكتاتور كبير” كان ذلك عنوان مقال في كتاب “صحفيون خلف أسماء مستعارة” الصادر عن معهد الجزيرة للإعلام، يسلط المقال الضوء على خضوع ما ينشر في بعض وسائل الإعلام لذوق مسؤولي التحرير، ذلك الذوق الذي لا يستند دائما إلى معطيات علمية أو خبرة مهنية، وأحيانا يرى صاحبه في حجب بعض المواضيع أو التعديل عليها نوعا من إثبات الوجود.

تقول رانيا الروادي التي وُقّع المقال باسمها “يعاني الصحفي نوعا من العبودية إن صحّ التعبير، حيث تحوّل إلى أداة في يد مالك المؤسسة أو رئيس التحرير أو من ينوب عنهما، وقد أثّر ذلك سلباً على أدائنا لعدم قدرتنا على مخالفة رأي المسؤول، يستعمل رئيس التحرير مقص الرقيب دائما فينتعش الحذف والتعديل، وأكثر وسائله نعومة هي تأجيل نشر المادة إلى أن تخرج من سياقها”.

قرارات مسؤول التحرير قد تكون مبنية على موقف مسبق من الصحفي الذي أعدّ المقال، وقد تأتي متأثرة بقناعاته وانتماءاته الفكرية والدينية، بالإضافة إلى قائمة من المؤثرات الأخرى جاءت مفصلة في نظرية حارس البوابة. هذه المؤثرات مجتمعة حولت الصحفي إلى مفعول به لا يشغله البحث عن الحقيقة ومعالجتها وفق المعايير المهنية، بقدر ما يشغله البحث عن إرضاء مسؤول التحرير.

وفي خضم هذه العقبات الموضوعة في طريق الصحفي ومهنة الصحافة، تبقى وسائل الإعلام عاجزة عن بلوغ أهدافها، وتظل الحقيقة ملتبسة، فهي في كثير من الأحيان تأتي مغلفة بالرأي أو محاصرة بالانتماء الفكري والطائفي، وإن سلمت من هذا وذاك، تأتي مصحوبة بالدعاية غير المباشرة للمولين، وأحيانا تتوارى خوفا من سطوة الجمهور، فليست كل وسيلة إعلام قادرة على دفع ثمن الحقيقة.

[1] ابن هشام الأنصاري: شذور الذهب
[2] مجلة الصحافة: التمويل الأجنبي للصحافة العربية.. مداخل للفهم

المصدر : الجزيرة مباشر