من يستطيع غير أردوغان إيجاد حل بنّاء للأزمة الأوكرانية الروسية؟

بوتين وأردوغان

دائما أقول “لكي تتعرف على بلد ما، يجب ألا تنظر إليه فقط من خلال عاصمته”. لذلك أثناء رحلتي إلى جنوب وشرق أوكرانيا في صيف عام 2015، في دونيتسك ولوهانسك وأوديسا التقيت بالعديد من الأشخاص الذين يصفون الروس بقولهم “إخواننا الذين اعتنوا بنا دائمًا في الأوقات الصعبة”. لم يكن جميعهم من أصول روسية، لكنهم كانوا مواطنين أوكرانيين.

يشكل الروس أكبر الأقليات العرقية في أوكرانيا، ووفقًا لإحصاءات عام 2006، يوجد أكثر من 53% من المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية في منطقة دونيتسك (دونيتسك أوبلاست)، و 51% في منطقة أوديسا، وأكثر من 71% في لوهانسك، من دون منطقة القرم التي هي بنسبة 59% وسيفاستوبول بنسبة 72% من الروس. كان تتار القرم (أتراك القرم) الذين تم نفيهم إلى آسيا الوسطى خلال حقبة ستالين، وتعرض الباقون منهم لسياسة الترويس من النظام الشيوعي، أقلية في أراضيهم منذ سنوات.

لذلك لم أتفاجأ من قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول بسهولة إليها وذلك في بداية عام 2014، مباشرة بعد الأحداث التي بدأت عام 2013، ولم يكن مفاجئًا أيضا أن عدد المليشيات المعروفة باسم “الرجال الخضر الصغار” ازداد وأرادوا الانضمام إلى روسيا. حسنًا، بعد مرور ثماني سنوات من عام 2014، هل ستضم أيضًا أراضي أوكرانيا العرقية في الجنوب والشرق حيث يتركز الروس؟ هذا هو السؤال الذي تبلغ جائزته مليون دولار.

بينما كانت أوكرانيا، التي عانت من أزمة اقتصادية في نهاية عام 2013، بصدد توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوربي، وتضمنت حزمة الإنقاذ التي فرضها صندوق النقد الدولي شروطًا قاسية للغاية، تخلى الرئيس يانوكوفيتش فجأة عن الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي وقبل عرض روسيا بالدعم الاقتصادي. لهذا السبب اندلعت “الثورة” المزعومة في كييف.

في بورا أوكرانيا بدأت حركة شبابية تحت شعار “حان الوقت!” ما سمته “احتجاجًا سلميًّا” بتحركات في الشوارع ورفع شعارات ساخرة ونشاط مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي، ونتيجة لذلك قتل أكثر من 130 شخصًا، 18 منهم من الشرطة. كانت الأحداث في كييف، التي انطلقت في الميدان الأوروبي، شبيهة بما يسمى “الثورة” المزعومة في مصر التي انتهت بانقلاب في صيف 2013 على يد مجموعة من الشباب باسم التمرد، انطلقت في ساحة التحرير للإطاحة بأول رئيس منتخب ديمقراطيًّا في البلاد، وهو محمد مرسي. لم تكن صياغتها مختلفة عن أحداث حديقة غيزي التي اجتاحت تركيا عام 2013، والتي بدأت في ساحة تقسيم بإسطنبول وكأنها عمل بيئيّ، وتحولت إلى حركة للإطاحة برئيس الوزراء آنذاك، الرئيس رجب طيب أردوغان.

هل كان يانوكوفيتش بريئا مثل مرسي الذي اتهم بالكثير من الأكاذيب وقتله نظام السيسي ببطء في السجن؟ ومثل أردوغان الذي استُهدف بسبب موقفه مما يجري في العالم الإسلامي من المآسي وخاصة في سوريا؟ لا نعرف، لكننا على يقين من أن ما حدث في البلدان الثلاثة لم يكن من قبيل “هندسة اجتماعية من أجل الديمقراطية”.

تركيا، التي توصف بأنها “عضو متمرّد في الناتو” منذ عام 2013، عندما بدأت في اتباع سياسة أدت إلى تعطيل التوازن الجيوسياسي، تمكنت من الحفاظ على سياسة التوازن مع أوكرانيا وروسيا، اللتين كانتا تقرعان باستمرار طبول الحرب بينهما. لهذا السبب، كلما تصاعدت التوترات بين أوكرانيا وروسيا، تتجه الأنظار إلى تركيا بعد واشنطن وموسكو.

بقوله إنه ضد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم منذ البداية، طوّر أردوغان علاقات جيدة مع الرئيس بترو بوروشنكو، الذي انتخب بعد الإدارة العميلة المؤقتة التي تأسست بعد إطاحة يانوكوفيتش. لم تتأثر العلاقات المعززة مع أوكرانيا بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية انتهكت حدودها في نوفمبر عام 2015، على الرغم من إعادة تركيا علاقتها مع موسكو في مايو عام 2016 بناءً على سياستها المتمثلة في “زيادة الأصدقاء وتقليل الأعداء”.

قطع الغاز

بينما زادت روسيا من تهديدها لأوربا التي تعتمد على روسيا في الحصول على الطاقة، من خلال قطع الغاز الطبيعي عن أوكرانيا عام 2014، ملأت تركيا هذا الفراغ بخطوط أنابيب الطاقة الممتدة من آسيا إلى أوروبا. ورغم توفير بديل للغاز الروسي، وقّعت أنقرة، التي لم تختر التنافس مع موسكو، اتفاقية “الخط التركي” مع موسكو لتحل محل مشروع خط الجنوب بين أوكرانيا وروسيا، الذي تم إلغاؤه عام 2014. وجاء المشروع التركي بعد انتهاء اتفاقية نابوكو مع الدول الأوروبية التي ابتعدت عن تركيا بعد أحداث حديقة غيزي عام 2013. كان مشروع نابوكو منافسًا للغاز الروسي فعارضته موسكو.  ومع بداية مشروع الخط التركي، أصبحت روسيا شريكًا لتركيا، وعلى الرغم من تعليق المشروع بعد إسقاط الطائرة الروسية عام 2015، فإنه استُؤنف بعد استعادة العلاقات ودخل حيز التشغيل عام 2020.

تركيا التي أصبحت شريكًا تجاريًّا مهمًّا لروسيا، حسّنت أداءها في عهد الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي لتصبح أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا باستثمار قدره 3.6 مليارات دولار في عام 2020.

على الرغم من اتفاقية شراء نظام الدفاع الجوي الروسي S-400، التي زادت من حدة التوتر بين تركيا والولايات المتحدة وتسببت في إخراج الولايات المتحدة لتركيا من البرنامج المشترك لإنتاج الطائرات الحربية F-35، وقّعت تركيا مع أوكرانيا عام 2019 اتفاقية لبيع الطائرات المسلحة العاملة دون طيار من طراز Bayraktar، وكانت الصفقة بقيمة 69 مليون دولار. كما وقعت تركيا أيضا اتفاقية لإنشاء مركز تدريب مشترك وصيانة لتك الطائرات في أوكرانيا، وذلك بالتوازي مع جهود أوكرانيا، التي تحاول أن تجلس على طاولة المفاوضات مع الغرب، ولكنها تجد نفسها على طاولة اللعب في كل مرة، خوفًا من أن تكون عرضة لروسيا. وتدرس كييف وأنقرة إنتاجًا مشتركًا لطرادات وطائرات عسكرية ومحركات توربينية وشراكات أكثر نشاطًا.

من ناحية أخرى، يُقال إن الدول الغربية، التي تدّعي أنها تقف إلى جانب كييف، منزعجة من صفقات الأسلحة التي وقعتها تركيا مع أوكرانيا، مع العلم أن أوكرانيا هي الدولة التي ستواجه أكبر مشكلة بوقوعها بين روسيا والغرب، فقد أدرجت الولايات المتحدة بولندا ورومانيا في مشروع الدرع الصاروخي الذي بدأته عام 2008 وفُرض هذا على الناتو في عام 2010، ونتيجة لذلك وضعت روسيا صواريخ إسكندر في كالينينغراد. وتقع قاعدة رادار الدرع الصاروخي في تركيا، التي تحرس الحدود الشرقية للناتو.

ومن المثير للاهتمام، أنه بينما وقعت تركيا اتفاقية بيع طائرات من دون طيار مع بولندا العام الماضي وهي أول مرة تبيع فيها هذه الطائرات لشريك في الناتو، كانت واشنطن غير مرتاحة لمشاركة تركيا في سوق الأسلحة، حيث طالب الرئيس الأمريكي جو بايدن في الأسابيع القليلة الماضية بأن يكون برنامج الطائرات بدون طيار التركي تحت المتابعة والمراقبة.

منع انتشار التوتر

تحاول تركيا أيضا، الدولة ذات الساحل الأكبر على البحر الأسود، منع انتشار التوتر الذي يعيشه الطرفان في مضيق كيرتش إلى جميع المنطقة. وستؤثر الحرب المحتملة سلبًا على جورجيا ورومانيا وبلغاريا، وكذلك ستفتح الباب أمام مشاكل خطيرة مثل مرور سفن الناتو عبر المضائق التي تسيطر عليها تركيا باتفاقية مونترو والتي تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأسود، وهناك قرارات كبيرة يتعين على تركيا اتخاذها.

ينوي أردوغان الذهاب إلى كييف قريبًا ثم لقاء بوتين لإيجاد حلّ. ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام الغربية تجعل الناس يعتقدون أن روسيا وأوكرانيا توحدتا ضد تركيا. وفي عام 2016 عندما وقعت بطريركية فنر اليونانية في إسطنبول مرسوم منح الاستقلال للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، قيل إن روسيا ستدفع فاتورة ذلك لتركيا ولكن هذا لم يحدث.

إذا كان الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، “سيتحدث كثيرًا ولا يقوم بأي عمل” كما حدث عام 2014، ويتجاهل الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا ويستمر في إشعال النار ويرتكب نفس الخطأ مرة أخرى، فإن ذلك يمكن أن يضر الغرب أكثر مما ينفعه.

يجب ألا ننسى أن هانتر بايدن، نجل بايدن، ربح الملايين من خلال الانضمام إلى مجلس إدارة شركة غاز في أوكرانيا عام 2014، وربما كان الفائز الوحيد في عام 2014. وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن نائب الرئيس في ذلك الوقت، وزار كييف عدة مرات وأجرى مكالمات هاتفية عديدة. ومن المثير للاهتمام، أن بايدن كتب في مذكراته عام 2017 أن أوكرانيا منحته فرصة لإحداث تغيير في العالم كان يحلم به عندما كان طفلًا.

ليس هناك شك في أن عائلة بايدن لديها صلة “عاطفية” بأوكرانيا، لكن ماذا سيفعل جو بايدن الآن وهو الذي لم يستطع المضي قدمًا في عهد أوباما؟ ومن يستطيع إيجاد حلّ بنّاء للأزمة في المنطقة غير أردوغان؟ سننتظر ونرى..

المصدر : الجزيرة مباشر