د. أيمن نور يوجه التحية لـ”رامي شعث” ويكتب: هل 31 يناير.. بداية الثورة؟

د. أيمن نور

الانطباع الذي كان سائدًا لدى كل الأطراف، قبل يوم 31 يناير/كانون الثاني 1919، أن القضية المصرية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن المستعمر أحكم إغلاق الأبواب والنوافذ كافة، أمام مطالب المصريين في الحرية والاستقلال.

استشعر سعد زغلول، بحسه السياسي الرفيع -بصفته سياسيًّا محنكًا ورجل دولة- أن شيئًا لا بد أن يحدث ليحرك المياه الراكدة، لم يدعُ سعد إلى ثورة أو إلى خروج الشعب للشوارع، بل قرر -فقط- أن يدعو عددًا من رفاقه في العمل الوطني، من أحزاب سياسية عدة مثل حزب الأمة والحزب الوطني، وكذلك عدد من نواب البرلمان، وعدد من النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية، لحفل شاي في منزله القريب من مقر البرلمان، وحدد سعد موعد هذا اللقاء مساء 31 يناير 1919.

الاستخفاف بالدعوة

وفي الوقت الذي استخف فيه البعض بالدعوة، وقلل منها، أدرك الجنرال “واطسون” -قائد القوات البريطانية في مصر- خطورة اجتماع هذه العشرات القليلة من النخب المصرية في لقاء يجمع كلمتها ويلم شتات مواقفها، حتى لو كان هذا اللقاء مجرد حفل شاي في منزل لا يتسع بحكم مساحته إلا لعشرات قليلة بالكاد، ولو حضر أكثر من هذا العدد لما وجدوا محلًا في بيت سعد الذي كان يعرف هذه الحقيقة قبل أن يوجه الدعوة‼

وقبل 72 ساعة من موعد اللقاء، نشرت صحيفة (ذي إيجيبشان جازيت) رسالة من قيادة الجيوش البريطانية إلى سعد زغلول تطلب منه العدول عن هذه الدعوة وهذا الاجتماع، بدعوى أنه يقلق الأمن، ويخالف الأحكام العرفية المعلنة في 2 نوفمبر/تشرين الأول 1914.

وانقسم رأي الجماعة الوطنية إلى فريق يرى ضرورة عقد الاجتماع وعدم التراجع عنه، وفريق آخر يرى نقله إلى منزل حمد الباسل، أو أحد قادة حزب الأمة دون الإعلان عن المكان الجديد واسم صاحبه الذي لم يخاطب في إعلان قيادة الجيوش البريطانية برفض اجتماع منزل سعد.

إلا أن “سعد” ونفرًا قليلًا حوله اجتهدوا في التعامل بذكاء مع رسالة قيادة الجيوش، ورأوا فيها مكسبًا سياسيًّا لو تم استثماره بطريقة صحيحة.

فقرر سعد أن يرد على الرسالة بخطاب وجهه إلى صحيفة (ذي إيجيبشيان جازيت) يوم 29 يناير، قال فيه “أرجو أن تنشروا ما يحمل قبولنا لإلغاء الدعوة”.

وربما وجد البعض في قرار سعد فرصة للطعن في ثوريته ووطنيته، وقبوله بالخنوع لإرادة السلطة الاستعمارية ومواقفها الاستبدادية، واعترافًا بالأحكام العرفية.

إلا أن الحقيقة أن “سعد” وجد في فكرة إلغاء الاجتماع مدخلًا واسعًا لتدويل وفضح ممارسات نظام الاحتلال، وأحكامه العرفية الجائرة، فوجّه عددًا من الرسائل يحتج فيها على هذا الإجراء بوصفه اعتداءً على حريته الشخصية، ووجّه هذه الرسائل المهمة إلى الرئيس الأمريكي “ويلسون” وإلى “جورج كليمنصو” رئيس وزراء فرنسا، بل أيضًا إلى “لويد جورج” رئيس وزراء بريطانيا.

اهتمت الصحف الأمريكية والفرنسية والبريطانية بنشر مضمون رسالة سعد زغلول إلى قادة بلادهم، وتعاطف الرأي العام مع الواقعة التي قد تبدو للبعض شخصية وفردية، وليست هى الأهم في ملف القضية المصرية.

بينما سأل بعض العقلاء والمحنكين سؤالًا مهمًّا هو: لو كان سعد زغلول أصر على عقد الاجتماع وانعقد بالفعل، هل كانت صحيفة واحدة ستهتم وتنشر سطرًا واحدًا عن هذا الاجتماع الذي عُقد بأحد المنازل في السيدة زينب؟!

والاجابة بالطبع: “لا” قولًا واحدًا.

ذكاء سعد

لقد كانت مهارة سعد السياسية، وحنكته، وبُعد نظره، هي السلاح الذي جعل “السياسة” سبيلًا لمواجهة أسلحة وبطش القوة العسكرية الغاشمة.

ذكاء سعد الفطري، وخبرته الطويلة، هي التي حملته خطوة إلى الخلف، يحقق بها قفزه كبيرة للأمام، بعد أن تحولت واقعة منع حفل شاي في منزله إلى قضية حقوقية وأخلاقية حركت غضبًا داخليًّا، وتقزز منها الرأي العام الخارجي، فبدأت الصحف الاهتمام بممارسات الاحتلال في مصر، والتعرض لأزمة 12 مليون مصري بلا حقوق مقابل 150 ألف أجنبي يتمتعون بكل الحقوق في مصر.

لقد كانت خطوة سعد بالقبول بإلغاء اجتماع (31 يناير) بداية حقيقية لخطوات واسعة تجاه التراكم الثوري الذي توالت أحداثه في الأسابيع التالية وصولًا إلى اندلاع أكبر وأول وأعظم ثورات العصر الحديث ثورة 1919.

الثورة لم تبدأ بنفي سعد ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي يوم 8 مارس/آذار 1919، لكنها بدأت عندما استطاع سعد أن ينقل الصراع مع 60 ألف جندي بريطاني على أرض مصر، إلى مواجهة بين “ذكاء السياسة وغباء الاحتلال”.

بدأت الثورة عندما استطاع سعد أن يجعل من أزمة إلغاء اجتماع 31 يناير، فرصة ودليلًا عمليًّا على صدق شعاره التاريخي “الحق فوق القوة”.

في الذكرى الـ 103 لاجتماع 31 يناير، أؤكد أن معظم الانتصارات الكبيرة، ربما تبدأ بالنجاح في إدارة “ذكية” لمعارك قد يراها البعض صغيرة‼

..وبهذه المناسبة، أقدّم تحية “خاصة” إلى الصديق العزيز (رامي شعث) الذي يُثبت كل يوم هذه الحقيقة.

المصدر : الجزيرة مباشر