“المولوية”.. قصة طريقة صوفية أسسها جلال الدين الرومي في تركيا!

المولوية في ذكرى "مولانا"

رغم أن الجماعات الصوفية التركية اشتهرت بكونها تجذب إليها ملايين المؤمنين بفكرها، المحبين لنهجها، والمنتمين لها، والسائرين على دربها دون كلل أو ملل، فإن هذا الانتشار لم يتعدّ في الغالب الحدود الجغرافية لتركيا، إذ لم ينتشر منهم -على كثرة عددهم- خارج ذلك النطاق الجغرافي إلا القليل ممن استطاعوا اختراق الحدود والانتشار في الكثير من دول العالم الإسلامي والغربي، ومنهم على سبيل المثال جماعة النقشبندية التي ذاع صيتها في بلاد الشام ومصر والمغرب العربي، والطريقة المولوية التي أصبحت اليوم من أكثر وأهم الطرق الصوفية انتشارا في مختلف أنحاء العالم، وذلك لعوامل وأسباب عديدة.

تأسست الطريقة “المولوية” في منطقة الأناضول، وبالتحديد في مدينة “قونيا” عاصمة الدولة السلجوقية آنذاك، على يد جلال الدين الرومي، أحد أكبر قادة الفكر الصوفي في العالم أجمع. نشأ الرومي في قونيا التي قدم إليها صغيرا مع والده محمد بن الحسين المعروف ببهاء الدين، قادمَين من مدينة بلخ، التي تقع حاليا داخل حدود الدولة الأفغانية.

كان والده من كبار علماء الصوفية، وأحد أبرز شيوخها، فتتلمذ عليه الكثير من المريدين والاتباع حتى سُمِّي “سلطان العارفين”. وخلال رحلتهم من بلخ إلى قونيا التقى جلال الدين بالشيخ فريد الدين العطار، الذي أهداه كتابه “أسرار نامه” ووصى به والده متنبأً له بعلو المكانة وذياع الصيت.

تتلمذ جلال الدين في بدايات حياته على والده ثم بعد ذلك على الشيخ برهان الدين محقق الترمزي، الذي كان عالما ومحققا صوفيا من الطراز الأول، فتعلم منه الرومي الكثير من العلوم والفنون، وحينما بلغ الخامسة والعشرين قرر السفر إلى الشام، فزار حلب ومكث فيها بعض الوقت ناهلًا من علوم فقهائها وعلمائها، ثم انتقل إلى دمشق مقر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ليستكمل رحلته العلمية.

وعقب عودته من الشام، ووفاة أستاذه برهان الدين الترمزي تولى جلال الدين كرسي الوعظ والإرشاد، وظل أكثر من خمس سنوات يدرس الفقه وعلوم الدين وفق منهج والده وأساتذته، وكان طلاب العلم يتوافدون عليه بأعداد كبيرة حتى وصل عددهم إلى أكثر من أربعمئة طالب علم، إلى جانب محبيه الذين كانوا يحضرون لسماعه وهو يلقي دروسه على تلاميذه في المسجد.

لقاء مولانا بالتبريزي والتحول الكبير

وفي سنة 642هـ شهدت حياة مولانا تحولا كبيرا على يد أستاذه شمس الدين التبريزي، حيث كان اللقاء بينهما -كما تذكر كتب التراجم- مشفوعًا بالكرامات، ومنذ اللقاء الأول تعلق قلب مولانا بالزائر الجديد، الذي أثر في حياته تأثيرا عظيما، وترك بصمة في قلبه وحياته لم يستطع أحد محوها.

وخلال الشهور الستة الأولى التي جمعت بين الرومي والتبريزي بدأت معالم الطريقة الصوفية الجديدة للمولوية الظهور شيئًا فشيئًا، وكانت تمتزج فيها العبادة الروحية بالشعر والموسيقى والغناء، وقد اعتمد الرومي هذه الطريقة للتعبير عن قدرة الإنسان على التوحّد والذوبان في بحار العشق الإلهي؛ حيث تحاكي الرقصات الدائرية على أصوات الدفوف والناي، حركة الكون والأفلاك، وهو ما اصطُلِح على تسميته بـ”رقصة الدراويش”.

وكما كان التبريزي ملهمًا لتلميذه الرومي في ابتداع “رقصة الدراويش” كان ملهمه الأول كذلك في نظم الكثير من قصائده، وأشعاره، وحكمه الفلسفية، وكتاباته الوعظية، التي من أعظمها وأهمها كتابه “المثنوي” الذي كتبه باللغة الفارسية، ثم تُرجِم إلى معظم لغات العالم.

انشغال مولانا بعلاقته الروحية مع أستاذه الجديد جعله ينصرف عن تلاميذه ومحبيه، مفضلا البقاء إلى جوار التبريزي لينهل من معارفه، ويغوص في أعماق تأمّلاته الروحية، سابحًا في أعلى المقامات الروحية، مبتعدًا بنفسه وروحه عن عالم الماديات بكل مساوئه، باحثًا عن حقيقة الوجود والموجود، واقفًا على مدى عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

وهو ما جعل أبناءه وتلاميذه ومحبيه يضمرون الكراهية للتبريزي، الذي قرر الاختفاء من حياة الرومي، تاركًا قونيا بكل ما فيها ومن فيها ليسافر إلى دمشق. وقد كان لهذا الغياب أبلغ الأثر على حياة مولانا، الذي مال إلى العزلة، والانكفاء على الذات، ليقرر ابنه الأكبر محمد بهاء المعروف باسم “سلطان ولد” السفر إلى دمشق وإعادة التبريزي إلى قونيا مرة أخرى رحمة بأبيه، لكن بقاءه بها لم يطل هذه المرة إذ سرعان ما اختفى دون سابق إنذار، وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أن تلاميذ الرومي قتلوا التبريزي وألقوا جثمانه في جوف بئر، وأن ابن الرومي الأصغر علاء الدين محمد كان من بين قاتليه.

لكن بعض المراجع تؤكد خروجه من قونيا وسفره إلى مدينة خوي، التي تقع في أذربيجان الحالية، حيث ظل بها حتى وفاته، وأن له فيها ضريحًا باسمه.

الخروج من العزلة

بعد اختفاء التبريزي للمرة الثانية، ونتيجة لإلحاح ولده سلطان ولد، خرج جلال الدين الرومي من عزلته التي فرضها على نفسه، وقضى جلّ وقته في تهذيب النفوس، ونشر المعاني الفلسفية الروحية، وتعليم المريدين والمحبين الأسس الصحيحة للتعاليم الإلهية، وذلك حتى وفاته سنة 672هـ، حيث دفن إلى جوار والده في المقبرة التي تحمل اسمه حتى اليوم، وتضم إلى جانب رفاته عددا كبيرا من أبنائه وأحفاده وبعض تلامذته ومريديه، وتعد من أهم مزارات مدينة قونيا، حيث يتوافد عليها آلاف من محبيه من مختلف دول العالم.

لم يكن مولانا معنيا في الحقيقة بتأسيس طريقة صوفية لها نظام وتقاليد وأسلوب حياة مختلف عما كانت عليه طبيعة طلابه، لكن خلفاءه نشطوا بعد وفاته في وضع أسس الطريقة المولوية وتعاليمها وتقاليدها في الوعظ والإرشاد، وطريقة الإنشاد، وحتى اللباس الذي يرتديه شيوخها ومريدوها.

وهو لباس يتكون من عدة قطع لكل منها رمزيته الخاصة به، فالسكة أو القلنسوة التي تشبه الطربوش في شكلها لكنها أطول منه، لونها بني ويتم صنعها من اللباد أو وبر الإبل، وهي خشنة الملمس، وترمز إلى خشونة الحياة وشظف العيش، وهذه يرتديها الدراويش دون غيرهم من المولوية، أما الشيوخ فيلفون على السكة عمامة خضراء تسمى “الدستار”.

وهناك عباءة قصيرة تلبس من دون إزار، وهي ترمز إلى الحياة القصيرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ونظرًا لعدم وجود إزار تحتها يقوم الدرويش بشدّها إلى منتصف أجسامهم بحزام عريض تشبّهًا بما كان الفقراء يفعلونه من ربط الأحجار على بطونهم من الجوع.

أما التنورة فهي لباس أبيض، يضيق من الكتفين حتى الوسط ثم يتسع ليأخذ الشكل المخروطي “القمع” ويرمز إلى الكفن، ويرتدي الدرويش فوقه لباسًا أسودَ فضفاضًا على شكل جبه، ويرمز لونها الأسود إلى العزوف عن ملذات الدنيا والابتعاد عنها. أما الحذاء فهو عبارة عن خف أسود خفيف، ينتعله الدرويش أثناء أداء رقصة الدراويش. ولشيخ الطريقة رداء خاص به، فهو يرتدي لباسًا يعرف بالخرقاية، وهو جبة متسعة الأكمام، فضفاضة ترمز إلى أن الدنيا سريعة الزوال، سهلة الانتهاء.

ورقصة الدراويش التي يؤديها المولوية لها نظام خاصّ بها، وحركات محدّدة يقوم بها الراقصون داخل القاعة، وتبدأ الرقصة بالدوران ثلاث مرات حول محيط قاعة الذكر يصحبهم خلالها صوت الدف والناي، وتسمى هذه الدورة بدورة سلطان ولد بن جلال الدين الرومي، ويرتبط دوران المولوية في القاعة بمنظومة دوران الكون، فالأرض تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، والمسلمون يطوفون حول الكعبة.

انتشار الصوفية المولوية في أنحاء العالم

لم يكتف خلفاء الرومي ومحبوه بتربية المريدين في مدينتهم بل بذلوا جهدا كبيرا من أجل نشر الفكر الصوفي وفق تعاليم مولانا جلال الدين الرومي، وعلى نهج الطريقة المولوية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية، وخلال سنوات قليلة اتسع نطاق الوجود الفعلي للمولوية، وأصبحت من أكثر الطرق الصوفية أتباعا ومريدين، وانتشرت التكايا الخاصة بالدراويش في كافة الأرجاء، وتحوي كل تكية قاعة خاصة بالذكر، وغرفة خاصة لكل درويش يمارس فيها طقوسه وشعائره، ومطبخًا، وقاعة للتدريس وشرح كتاب المثنوي، إلى جانب مكتبة كبيرة تحوي كثيرا من الكتب الدينية والثقافية جنبًا إلى جنب مع مؤلفات الرومي.

وأصبح هناك تكايا كثيرة في حلب ودمشق وبغداد والقاهرة ومدن آسيا الوسطى، اهتمت اهتمامًا بالغًا بتحفيظ القرآن الكريم، وتدريس الفقه وعلوم الحديث، إلى جانب تعليم فنون الخط والمقامات الموسيقية وفنون الطبخ على طريقة الدراويش التي تميزت بالتقشف والبعد عن البذخ.

العالم يعيد اكتشاف مولانا لإنسانية فلسفته

ومع التطور التقني الحديث، وما تعانيه الإنسانية نتيجة انتشار العنصرية وكراهية الآخر، وزيادة الحروب المدمرة، أعاد العالم اكتشاف مولانا جلال الدين الرومي وفلسفته الروحية مرة أخرى، ليعود ويحتل موقع الصدارة في نفوس محبيه ومريديه الذين تتفاوت أعمارهم وتتباين ثقافاتهم. وقد أُعِيدت ترجمة كتبه ونشرها على نطاق واسع، حتى إن العديد من مطربي البوب في العالم قاموا بغناء قصائده، كما أصبحت أشعاره محط أنظار الجميع، حيث تُلقى في الكثير من الفعاليات الثقافية التي تشهدها مدن العالم، وتتخطف الأيدي أي كتاب يُذكر فيه اسمه.

لقد وجد الناس في جلال الدين الرومي وأفكاره النموذج الإنساني الذي يبحثون عنه وسط ركام الحروب وبين ضحايا العنف والكراهية، حيث قدم لهم الإنسان في أعظم صورة خلقه عليها الله سبحانه وتعالى دون تفضيل أو تمييز، فأحبوه لبساطة فكره وعمق فلسفته، وقدرته الفائقة على الغوص في أعماق النفس البشرية واستخراج الدرر الكامنة داخلها.

المصدر : الجزيرة مباشر