الاسلاميون والحكم.. بديهيات لا تغيب!

حزمة من البديهيات الحاضرة ينبغي ألا تغيب عن مؤسسات صنع القرار في مربع الحركات الإسلامية، وينبغي أن تتفهمها القواعد حتى لا تمثل ضغطا على الحركات، وحتى تتجنب الصدمات النفسية والانحرافات الفكرية والانشقاقات التنظيمية حين تحدث الأحداث، منها: رفض المشروع الغربي المهيمن عالميا للمشروع الإسلامي السني، وكذلك رفض أي مشروع وطني أيًّا كانت مرجعيته إذا كان مستقلا ومنحازا إلى الشعب ومصالحه؛ لا إلى الغرب ومطامعه، وبالتالي فلن يصل إلى الحكم إلا من كان له دور وظيفي وعليه فلن يكون مشروعا إسلاميًّا بالمفهوم المنشود، ولكنه سيكون شكلا بلا مضمون كما هو الحال في بعض الدول.

الحكم الإسلامي بحاجة لكيان حاكم بحجم التحديات ومستوى الطموحات، وكذلك إلى شعب يقظ يتبنى المشروع ويحرسه ويحميه، وليس مجرد نخبة تصل إلى الحكم من دون صلاحيات كافية، وترفع شعارات فاقدة المضمون تعطلها مؤسسات الدولة ولا تتبناها غالبية الشعوب.

من السطحية أن يظن البعض أنه بمجرد وصول تيار إسلامي أو مدني مستقل غير تابع للغرب إلى الحكم في بلاد العرب والمسلمين؛ أنه سيتمكن من مؤسسات الدولة الخشنة والناعمة، فالواقع يؤكد -عبر عقود وربما قرون- أنه تم بناء مؤسسات الدول العربية بصفة خاصة لتكون موالية للغرب فكرا وسلوكا ومصالح، أكثر من ولائها للشعوب، خاصة المؤسسات النافذة (المؤسسة العسكرية والتشريعية والقضاء والإعلام).

نصيحة مخلصة وواعية

ستكون منصة الحكم في أزمة واقعية، أهمها أنها ستحكم بنفس الأدوات والمؤسسات بما فيها من فساد رغمًا عنها (كلام قاله الشيخ محب الدين الخطيب للأستاذ حسن البنا عام 1947 على خلفية انتخابات سوريا وقتها)، وهذا ما وقعت فيه حركة النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب، والإخوان في مصر، لأنه من المستحيل إقالة أو إعفاء مئات الآلاف من القيادات العليا والوسيطة من مؤسسات الدولة، فضلا عن عدم توفر الكفاءات البديلة التي هي على الأقل بعشرات الآلاف!!

اللافت أن غالبية قواعد الحركة الإسلامية تغيب عنهم هذه البديهية بصفة خاصة، بل يظنون جهلًا بالواقع وثقةً بالمطلق في تنظيماتهم بأن لديهم من النظم والبرامج والكفاءات ما يكفي لإدارة العالم وليس مجرد دولة.

من جهل الواقع أن يظن أحد أنه بمجرد تغيير الرئيس ومجموعة العمل المصاحبة ولو كان عددهم بالمئات؛ أنه يستطيع إدارة الدولة متجاوزا مجموعات وتكتلات المصالح داخل مؤسسات الدولة (التجارب في مصر وتونس واليمن والمغرب خير شاهد).

مقارنة الوضع في الدول الغربية المستقرة على مستوى الدولة والمؤسسات والنظم والدساتير والقوانين ببلادنا، التي لم تصل عمليا وعلميا إلى مسمى الدولة بمفهومها القانوني والإنساني؛ مقارنة في غير موضعها، فتلك دول منذ قرون، ونحن ما زلنا إقطاعيات لم نرتق إلى مستوى الدول بعد. وما يقال عن التاريخ باستثناء بعض الفترات القصيرة المحدودة بحاجة إلى إعادة نظر لأنها كانت دول النخب وليست دول الشعوب.

بناء المجتمع الإسلامي أولا

بناء المجتمع الإسلامي هو القاعدة الأساسية للحكم الإسلامي باعتبار أن الحكم هو الصورة المنعكسة عن المجتمع، ولن يستطيع نظام حاكم فرض الإسلام أو غيره بالقوة. نعم قد يظل نظام في الحكم بأداة القوة لكنه إلى زوال، إن لم يكن اليوم فغدًا.. بناء المجتمع الإسلامي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا هو صمام الأمان ووثيقة الضمان للمشروع ونظام الحكم.

أما سلوك المغامرة والقفز في الفراغ دون جاهزية ذاتية وعامة على أمل (نجرب والله معنا ولن يضيعنا) فسلوك يخالف سنن الله في كونه ويعارض قوانين الأسباب والنتائج، ويترتب عليه من التداعيات والمآلات ما لا تتحمله الشعوب والكيانات، وهو واقع مؤلم نعانيه بمرارة.

الخلاصة؛ ما تعانيه بعض التنظيمات الإسلامية من مآلات الإخفاقات والفشل، خاصة في ما أصابها من الانحراف الفكري بالتشكك في منهج التغيير السلمي وكذلك الانشقاق التنظيمي، فضلا عن العجز الواضح لدى البعض في استيعاب هول الصدمة، وعدم القدرة على المراجعات العلمية لأسباب وتداعيات ما حدث، لا يمنحها الثقة الكافية لقيادة دول قد تتعرض لأزمات اقتصادية طاحنة أو تهديدات أمنية وقومية صادمة.

لكن ليس معنى كل ما ذكر أن تنسحب الحركات الإسلامية من المنافسة على السلطة إلى الأبد، ففي هذا خسارة كبيرة للأمة وتوقف لعجلة التدافع التي هي سنة إلهية، ونكوص عن مواصلة المشروع الإسلامي، وحرمان الأمة من جهود المخلصين، وإنما المقصود ألا يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة غير مهيأة، وهذا ربما ينطبق على المراحل الانتقالية.

وتلك هي النتيجة التي ظهرت عند استعجال الإخوان الدخول على خط الحكم إثر ثورة يناير فكان ما كان.

المراحل الانتقالية تكون مراحل سائلة لم تتهيأ مؤسسات الدولة العميقة فيها بعد لاستقبال التغيير.. ولعل هذا المعنى هو الذي كان يقصده البنا بقوله: “إن الإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذه الحال”، فالمقصود عدم التعجل وليس نفي التقدم بالكلية.

وبمعنى أدق لا أعني هنا التطليق البائن للسلطة والحكم، وإنما أعني التقدير الصحيح للموقف عند الشروع في المنافسة، حتى لا تكون التكلفة أكبر بكثير من العائد.

إن مشاركة الاسلاميين في بناء الدولة بوصفهم أحد مكونات المجتمع المهمة ضرورية.. ولا يكون التنافس إلا بعد بناء دول ونظم مستقرة تؤمن العدالة والشفافية والتداول السلمي.

المصدر : الجزيرة مباشر