من غزة: أولويات إسرائيل في الحرب

آثار الدمار في غزة جراء قصف الاحتلال المتواصل على القطاع المحاصر
آثار الدمار في غزة جراء قصف الاحتلال المتواصل للقطاع المحاصر (رويترز)

بينما نحن هنا في غزة نتلقى أطنان المتفجرات التي تنهال علينا من الطيران الحربي الإسرائيلي بصورة جنونية، لا يزال هناك شعور بأن كل هذه الغارات المكثفة والمجازر المرتكبة عبارة عن سلسلة أهداف متصلة، يجري تقييمها من قبل فرق متخصصة تحت إشراف مباشر من قادة الحرب الإسرائيليين، وأن هذه الأهداف مرصودة بدقة عالية، ويقصد بها تدمير حماس التي تأتي على سلم أولويات الاستهداف في غزة بترسانتها وقادتها وأعضائها، تليها الجهاد الإسلامي بترسانتها وكوادرها إضافة إلى بقية التنظيمات الأخرى العاملة في الميدان، ثم كل مرافق الحياة الخدمية التي تقوم على إمداد الناس بالخدمات الأساسية من كهرباء وماء وطعام واتصالات وغيرها، بل وصل الاستهداف في هذا الشأن إلى أبعاد لم نعهدها نحن الغزيين من قبل مثل استهداف المستشفيات والكنائس ومراكز إيواء المدنيين العزّل، لإيصال رسالة واضحة مفادها تنفيذ مخطط يجري التصريح به وهو مخطط التهجير.

لكن هذه الحرب التي قرر شنها قادة الاحتلال بصورة متسرعة وفي إطار انتقامي يجري العمل فيها على العديد من المحاور في محاولة لتحقيق أهدافها المرصودة التي يمكن فهمها بترتيب أولوياتها إلى ثلاثة أهداف مركزية هي القضاء على حماس، والتهجير، وتدمير غزة.

أولًا: القضاء على حماس

يبدو أن المشاورات التي أعقبت هجوم مقاتلين من غزة على مستوطنات الغلاف في السابع من أكتوبر الذي أفضى إلى مقتل ما يزيد على ألف إسرائيلي بين مجند ومستوطن واختطاف قرابة مئتين آخرين والقضاء على فرقة غزة كلها باعتراف جيش الاحتلال، توصلت إلى أنه يجب القضاء على حماس بشكل مباشر دون توان أو تأخر.

فكرة القضاء على حماس في أذهان الإسرائيلي فكرة عدمية، أشبه باجتثاث شجرة بجذورها، وهو ما رآه الكثيرون شبه مستحيل، لكن يبدو أن هناك من قادة الحرب من يدرك أن تدمير حماس لا يتأتى إلا بتدمير غزة كلها، ويبدو أنه (هذا الجنرال ومستشاريه) يتحرك وفقًا لخرائط توضح له أن غزة عبارة عن شريط ساحلي ضيق صغير ويمكن القضاء عليه بسهولة، بمجرد أن نبدأ بصب الحمم من الطيران الحربي بشكل متواصل ثم الدخول بريًّا، ويمكن حينها القضاء على حماس ومن معها.

وحين صرح هذا الجنرال بهذه الفكرة بصورة غير مدروسة، وجد رئيس الوزراء المتأزم الذي يحاول التنصل من مسؤولية هجوم السابع من أكتوبر فرصة ذهبية لإشغال الجميع بهذه الفكرة، كما أعجبته إعادة طرح فكرة تهجير أهالي غزة إلى سيناء، وحين عرض الأمر على الأمريكان، لاشك أن الأمريكان بغشمهم المعتاد وافقوا على هذه الفكرة دون تردد في محاولة لإرضاء حليف استراتيجي في المنطقة يمثل قاعدة استخبارية وجوية وبحرية مهمة للغاية، بل إنهم لم يحاولوا أن يضعوا فكرته في إطار زمني محدد أو ضمن شروط معينة، فأطلقوا لبنيامين نتنياهو ووزراء حربه العنان كي يفعلوا ما يحلو لهم، هنا شعر نتنياهو بأن هناك إمكانية لإعادة ترتيب الأوضاع أثناء تدمير غزة، وتحقيق ما عجز عن تحقيقه مسبقًا، بالرغم من أنه يعلم يقينًا فشل العملية برمّتها، وأن الضغوط ستزداد عليه مع الوقت من قبل الجميع، لكنه أعطى الأمر من اللحظة الأولى ودون تردد ببدء الحرب على غزة، واستطاع في ظرف يومين تشكيل حلف مع غريمه غانتس، ومن ثم أخذ الموافقة من الكنيست الإسرائيلي، هكذا أصبحت ساحة القتل معدة وتحت يديه كلّيًّا.

هنا في غزة

تقتضي الخطة العاجلة تركيز الهجوم على غزة بشكل هستيري، بالترافق مع تنظيف غلاف غزة من المقاتلين الباقين هناك وإحكام السيطرة على الحدود، واستدعاء أكبر عدد ممكن من الاحتياط، وتجهيز الترسانة تحضيرًا للهجوم البري. حتى هذه اللحظة الأمور تشي بأن هناك إنجازًا يمكن أن يتحقق، في ذات الوقت لم تتوقف ضربات المقاومة بالصواريخ المحلية الصنع عن استهداف كل الأرض المحتلة بدءًا بالغلاف ووصولًا إلى القدس الغربية وتل أبيب بل أبعد من ذلك.

هنا في غزة كانت الأمور تتدحرج نحو الأسوأ، بسرعة كبيرة، خلال أيام كان هناك أكثر من ألف شهيد، صور الأطفال المقتولين بالغارات تحت أسقف منازلهم، صور المجازر المتتالية، الاستهداف المركز على المدنيين العزّل، والتهديدات التي يتلقونها عبر الهواتف من مخابرات الاحتلال بمغادرة أماكنهم والتوجه إلى وسط المدينة أرغمت عشرات الآلاف على ترك منازلهم والتوجه إلى مركز المدينة، ومن ثم بدأت فكرة التهجير وتوجيه الناس في اليوم الخامس للحرب نحو الجنوب، وهو ما جعل الناس تترك غزة ووسطها من جديد وتتدفق نحو جنوب غزة، وبالرغم من ادعاء جيش الاحتلال الحفاظ على حياة المدنيين فإنه قام باستهدافهم بشكل مباشر أثناء نزوحهم وتسبب في مقتل أكثر من ١٠٠ مدني في منظر مروّع؛ مما دعا الكثيرين إلى البقاء في غزة.

وهكذا جرى تنفيذ نصف مخطط التهجير في وقت قياسي، أي تهجير أهل غزة نحو الجنوب، لكن إسرائيل لم تتمكن من القضاء على حماس ولم تستطع أن توقف الهجمات الصاروخية المنطلقة منها نحو مدن إسرائيل، وبدأت أصوات تنادي بأن الدخول إلى وحل غزة سيكلف الكثير، وهو ما حدا بالناطق باسم القسام أبو عبيدة إلى توعد جيش الاحتلال بأضعاف خسائره يوم السابع من أكتوبر، ويبدو أن دخول حزب الله على الخط، واشتغال شمال إسرائيل بهجمات بين الطرفين، وتهديدات من هنا وهناك، بل وأزمات داخلية في الجيش وعدم رغبة جنوده في الهجوم البري، جعلت فكرة الهجوم البري محط دراسة بل ويمكن التراجع عنه في حال تحقق شيء من صورة النصر، وهي النهايات المعتادة لآلة الحرب الصهيونية، البحث عن صورة نصر بأي شكل، وهذا يعني أن القضاء على حماس أصبح هدفًا أحمق ولن يتحقق، حتى بالدخول البري الباهظ الثمن.

ثانيًا: التهجير

من الواضح أن ما جرى تحقيقه على الأرض أمر آخر بعيد عن الهدف الأول من الحرب وهو القضاء على حماس، هناك استجابة عالية من سكان غزة لسيناريو النزوح، وهو ليس استسلامًا ولا استجابة لتهديدات الجيش ومخابراته للناس، بل بحثًا عن مناطق آمنة، ونظرًا إلى أن طبيعة الهجمات من آلة الحرب الإسرائيلية أخذت في استهداف تجمعات سكنية كثيفة وتدميرها بشكل كامل، وهو ما حدا بالمدنيين العزل هنا إلى اتخاذ قرار بالفرار من ساحة المعركة، وهو أمر طبيعي، لكن غير الطبيعي هو تأطير هذا النزوح ضمن خطة تهجير إلى الصحراء، الذي لاقى معارضة من قبل الجميع، الفلسطينيين أولًا، ثم مصر والمجتمع العربي والدولي، وبدا أن هناك معركة سياسية أخرى تنشب لاحتواء واستيعاب مليونين ونصف مليون فلسطيني هم أهل غزة، وبالتالي أصبح هدف التهجير في مهب الريح، وقد لا ينجح كما لم ينجح من قبل وهو سيناريو طرح عشرات المرات، ولم يجر تنفيذه.

ثالثًا: تدمير غزة

الأمر الوحيد الذي تبقى من هذه الحرب هو محاولة إنهائها بصورة نصر لهذا العدوّ، لكن كيف يحصل على صورة نصر وهو لم يحقق أي هدف من أهداف حربه، بل يدرك نتنياهو ومن معه أنه بمجرد توقف هستيريا الحرب، ستُشنّ عليه ضغوط كبيرة وسيجري تمزيق صورته كسياسي فشل في حياته السياسية، بل وسيجري شطبه من دوائر القرار بصورة عاجلة، وبالتالي لا يستطيع أن يوقف هذه الحرب إلا بصورة أكبر من مجرد صورة نصر، والخيار الوحيد الذي بين يديه هو هذه الصواريخ الكثيرة التي وصلت من أمريكا، وهذه الحرب التي لا تتوقف، وبالتالي فهو يحاول أن يكسب أكبر وقت ممكن من أجل البحث عن هدف يجعله لا يخسر جميع أوراقه دفعة واحدة، وتدمير غزة سيكون حصان طروادة الذي سيمتطيه للقول إنه أنجز أمرًا ما، أمرًا من شأنه أن يهدئ الإسرائيليين قليلًا ويطمئنهم على مستقبلهم، وهو ما أصبح أمرًا مستحيلًا بعد السابع من أكتوبر الماضي، لكن هناك ملفا خطيرا يحول دون تدمير غزة كلها، ملف من شأنه أن يطيح بأعلى رأس في إسرائيل، وهو ملف الأسرى الإسرائيليين في يد المقاومة الفلسطينية.

المصدر : الجزيرة مباشر