من غزة: لم يكن أحد يتوقع ما يحدث الآن!

فزع في إسرائيل بعد "طوفان الأقصى"

لا شك أن ما حصل يوم السابع من أكتوبر في غلاف غزة، وهو تمكن مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين في غزة من اختراق حدود كيان الاحتلال الإسرائيلي، والتوغل بكل جرأة بجيباتهم ودرجاتهم النارية في المستوطنات المحاذية لغزة واقتحامهم الثكنات العسكرية والإجهاز على جنود وضباط فرقة غزة كلهم، في غضون ساعات، وهي الفرقة التي لطالما مارست كل أشكال الحصار والاغتيال والتجسس والمراقبة على أهل غزة طوال أكثر من خمسة عشر عامًا مضت، لا شك أن ما حصل أحدث تشوّشًا وتصدّعًا وارتباكًا لدى الجميع، الجميع على كل المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية من طرف العدو، مرورًا بالمجتمع الإسرائيلي وحلفائه في الغرب وصولًا إلى الولايات المتحدة بأوساطها المختلفة.

وفي المقابل أيضًا أحدث تشوّشًا وارتباكًا كذلك في المجتمع الفلسطيني بكافة أطيافه وأماكن تمركزه، وكذا المجتمع العربي أيضًا وأوساطه الرسمية والشعبية، هذا الارتباك الواسع الرقعة سرعان ما استولت آلة الحرب الإسرائيلية على مشهده بردّها الهمجي والانتقامي من المدنيين في غزة الذي يستمر إلى الآن، إذ بدأ الطيران الحربي الإسرائيلي يقذف بمئات بل آلاف الصواريخ المدمّرة على غزة ويرتكب المجازر البشعة في حق المدنيين العزل بدعوى استهدافه للإرهاب، ولم يقف الأمر هنا، بل مارس العقاب الجماعي الانتقامي عبر إيقافه خطوط ضخ المياه إلى غزة وإيقاف إمدادات الوقود إلى محطة الكهرباء وبالتالي توقفها كلّيًّا، واستهدافه شركات الاتصالات وقصفه عشرات الأبراج السكنية بل أحياء سكنية كاملة، ومرافق حياتية مختلفة، وأصبح يدعو بشكل واضح إلى عملية تهجير ممنهج لأهالي غزة نحو جنوب غزة، تمهيدًا لسيناريو ترحيلهم جميعًا إلى سيناء، وذلك في إطار هدفه المعلن وهو القضاء على حماس، في عملية ترهيب وحشية ضد شعب بأكمله.

وهو شعب مُنهك أصلا من جولات القتال الأخيرة وأعزل ولا يملك من مقومات الصمود شيئا، وبينما ألقى بحممه على  هذا الشعب المسكين لم يتمكن من أن يقتل سوى بضعة عشرات ممّن ينتمون لحماس أو جهازها العسكري! أما بقية من قتلهم فأكثر من نصفهم هم من الأطفال والنساء الذين انهالت عليهم الصواريخ بلا رحمة وقتلتهم في منازلهم وفي الأسواق والمستشفيات والكنائس.

هذه المقدمة سردناها لنضع القارئ في صورة الوضع برمّته في غزة، التشويش الأكبر الذي يخضع له أهالي غزة جراء الحرب القائمة يجعل من الصعب على أحد هنا أن يفكر في أبعد من أن يدبر أمر نفسه وأسرته ويوفر لهم الأمان والماء والطعام، وبالتالي يمنعه من التفكير في مآلات الأمور وما يمكن أن تفضي إليه الأيام القادمة.

غزة مكان للإزعاج

غزة أصبحت مكانًا يسبب الإزعاج ليس لإسرائيل فقط، ولا للأوساط الغربية والعربية الرسمية، بل للبيت الأبيض نفسه، هكذا ينظرون إلى غزة الآن، وهذا ما دعا الأخير وأقصد أميركا إلى أن تلقي بثقلها في المشهد ليأتي رئيسها بقنابله وحاملة طائراته وإعلامه وخططه العسكرية والسياسية ليقود المعركة جنبًا إلى جنب مع المعتدى عليها والضحية (إسرائيل)، وأصبح هذا المُقاتِل بعتاده البسيط الخارج من غزة، عدوّ العالم المتحضّر، كما صرّح بنيامين نتنياهو في تصريحه الوحيد من بداية المعركة وهو أن هذه المعركة معركة بين العالم المتحضر والعالم الوحشي على حد تعبيره.

إذن، دعونا نعد ترتيب المشهد بصورة مختلفة عمّا تجري المبالغة إزاءه، نعم هناك مبالغة في معظم المشاهد، من بدايتها وحتى استدعاء أمريكا لحاملة طائراتها ونزول رئيسها بشكل عاجل إلى إسرائيل ليعلن دعمه الكامل والواضح والصريح والمبالغ فيه لإسرائيل، دعونا نضع النقاط على الحروف التي سألخصها في ثلاث نقاط مركزية تعيد تشكيل الصورة لحضرتكم إن أمكن.

أولًا: توقعات المُهاجِم

دعونا نقرّ في البداية بأن حماس وذراعها العسكري لم يكونا يتوقعان هذا السقوط المدوّي والسريع لغلاف غزة وفرقة غزة فيه! هذه القاعدة قاعدة منطقة وعادية، والجماعة ببساطة لأول مرة يخوضون معركة من هذا النوع، ولأول مرة يتمكنون من اجتياز الحدود والالتحام المباشر بجنود جيش العدوّ، الوقائع تشير إلى أنهم تمكنوا من خلال خطتهم التي تعتمد على مبدأ المفاجأة والتي جرى التكتّم عليها بصورة كاملة وإعدادها بدقة بالغة من أن ينهوا معركتهم مبكرًا جدًّا، وبنتائج فاقت توقعاتهم هم قبل توقعات عدوهم وتوقعات شعبهم من بعدهم!

بأبسط القواعد العسكرية يمكن القول إن هؤلاء الشباب المقاتلين استطاعوا أن يفعلوا ما لم تفعله جيوش مدجّجة بكافة أنواع الأسلحة، ليس هذا فحسب، بل ويسطّروا ملحمة شعبية سيدوم ذكرها بين الأجيال المتعاقبة في سابقة من نوعها لم تحدث في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، وهذا باعتراف العدوّ نفسه، وبشهادة الجميع، لأجل هذا، خرجت الأمور عن السيطرة.

ببساطة الخطة لم تكن تقتضي هذا الالتحام العنيف! والمُراقِب للوضع يمكنه أن يفهم أن الأمر تجاوز الإمكانيات الطبيعية لمجموعة مقاتِلين محاصَرين داخل سجن كبير اسمه غزة يخضع لكافة أنواع الرقابة العالية الدقة ومحاط بالأسوار من كل الجهات ومعدات التصويب التي تعمل بشكل آلي بمجرد أن ترى جسما يتحرك أمامها.

فقد قاموا بتعطيل المعدات جميعًا وتجاوزوا كل تلك الأسوار وأجهزوا على فرقة كاملة تتبع لجيش يعدّ من أكثر الجيوش تقدمًا وكفاءة قتالية في العالم، ومن المرة الأولى! إذ لم يحدث من قبل أن التحمت مجموعة بهذا الشكل بأخرى من الجيش الإسرائيلي وتمكنت من تحقيق ما جرى تحقيقه هنا، ليس هذا فحسب، بل إنهم تمكنوا من أسر أكثر من مئتين آخرين من عدوّهم وسيطروا على مستوطنات بأكملها مدة تزيد على ٧٢ ساعة، وهي مدة مرعبة بالنسبة للكيان، حتى في سيناريو لبنان والتحام جنود بحزب الله عام ٢٠٠٦، لم تصل الأمور إلى هذا الحدّ!

هذا يعني أنهم استطاعوا تحرير جزء ليس بسيطا من الأرض مدة ٧٢ ساعة وهو الجزء الذي يُفترض أنه خط الدفاع الأول والأهم للكيان، وعلى حدود تُعد الأخطر للكيان! وهو ما لم تستوعبه الأوساط الأمنية والسياسية والعسكرية في إسرائيل، التي سرعان ما استدعت نخبتها المقاتلة بجميع عتادها وعدتها لتلتحم التحاما عنيفًا في سبيل القضاء على هؤلاء المقاتلين أو حتى دحرهم، وبقيت المعارك دائرة على مدار أسبوع متواصل دون توقف، وقد سقط الكثير من النخبة المقاتلة للجيش الإسرائيلي بين قتيل وجريح في أثناء محاولتهم السيطرة على الوضع، بمعنى أن الأمر لم يقتصر على عنصر المفاجأة لحسم المعركة، بل تعدى ذلك إلى خسارتهم جولات قتال على أرضهم، وهو ما كان صادمًا للجميع هناك، هذا ما حصل بالضبط دون أيّ مبالغة.

ثانيًا: توقعات الفلسطيني والعربي

الأمر بالنسبة للفلسطيني والعربي بشكل عام أشبه بحلم، بل لم يكن يجرؤ أحد على أن يحلم بذلك لاستحالته، لكن الحلم ببساطة تحول إلى حقيقة في وقت قياسي، وأمام العالم أجمع، وبأبسط إمكانيات القتال!

هذه المعاني الغزيرة المتدفّقة من رحم المعاناة هنا في غزة، هذا الشريط الساحلي الضيّق والمحاصَر والبائس والذي يقاوم برغم انعدام إمكانياته، مثّلت للفلسطينيين في الوطن والشتات وللعربي والمسلم الغارق في التيه، مثّلت هذه الضربة للكيان شيئا من كرامة عفا عليها الزمن، كرامة تذكّره بعدوّه الأساسيّ، الذي يستغل وهن الأنظمة وحكّامها وتيه شعوبهم ليقيم حفلات التطبيع العلنية بخسّة وقهر للفلسطيني وللعربي الذي يعرف فلسطين ويعرف من يحتلّها جيّدًا، لكنه لا يملك أن يغير من الأمر شيئا، في عالم أصبحت تحكمه المصالح، ولغة المال والأعمال، استطاعت إسرائيل فيه أن تبني لنفسها صورة تحاول من خلالها القول إنها لا غنى عنها، ولا تمكن هزيمتها، وتستطيع أن تفعل ما تريد كيفما تريد وقتما تريد بكل صلف وعنجهية وغرور، هذا الخداع والتضليل كان يراه مقاتل غزة البسيط أمرًا مضحكًا وساذجًا وساخرًا، وهو ما حدا به عند أول فرصة إلى أن يثبت للعالم أجمع حقيقة هذا الوهم المسمى إسرائيل، أي أنه كان يعلم أن هذا العدوّ جبان، لكنه لم بتوقع أن يكون بهذا الوهن الذي سقط فيه مدوّيًا.

ثالثًا: توقعات حلفاء إسرائيل

سارع العالم الغربي بكل طاقته وإعلامه ودعمه العسكري واللوجيستي المتدفق لإنقاذ الموقف، وإعدام الحلم والقضاء عليه سريعًا قبل أن يتمدد! وطريقتهم لهذا هي ذات الطريقة التي اتبعوها في كل إخفاقاتهم السابقة كما حصل في العراق وأفغانستان َوغيرها، وهي أن يعطوا جيش الاحتلال الغطاء الكامل لارتكاب المذابح، وأن يغرق الإعلام بدوره بصور المجازر والأطفال المقطّعين والوحشية المدمّرة والقصف العنيف للمدن والقرى والانتقام من المدنيين وتشريدهم، كي يقول للجميع توقفوا عن الأمل، لا يوجد لكم قيامة، لا يوجد لكم ملاذ من بطشنا وجبروتنا وهيمنتنا، يجب أن تبقوا أذلّة خاضعين، كل من يفكر في النظر إلى الأعلى عليه أن يرى صواريخنا تتساقط عليه، والدمار يحل بداره، والقتل يصيب أهله، لهذا يدمّرون غزة الآن، ويحاولون قلب الصورة إلى أن يكونوا هم المهاجمين ونحن الضحية، وهذا ما يجري إعادة غرسه الآن في أذهان الجميع، حتى ولو كان من خلال الانتهاك الصارخ للقانون والأعراف والمواثيق الدولية، المهم أن يبقوا أسيادًا فوق الجميع، ويبقى الجميع أسفل منهم.

هذا ما على الجميع فهمه، أن كل هذه المجازر وهذه الصور هي مقصودة، والقصد منها واضح وهو تخويف كل من تسوّل له نفسه أن يقترب من حدود هذا الكيان، وإرغامه على التراجع كي لا يصيبه ما أصاب هؤلاء الفلسطينيين الذين سننتقم منهم شر انتقام. لهذا نحن الآن تحت رحمة القاتل، يختار المكان والزمان ليقتل من يريد، بدعوى محاربة الإرهاب، في حين أنه هو الإرهاب نفسه.

المصدر : الجزيرة مباشر