لماذا تخشى إسرائيل هدنة إنسانية لوقف إطلاق النار؟

ينظر إلى غرفته بعد أن دمرها الجيش الإسرائيلي (وكالات)

انتهى شهر أكتوبر/تشرين الأول، ومضى على بدء الحرب على غزة قرابة ثلاثة وعشرين يومًا، حرب همجية غير متكافئة بين جيش يمتلك كافة أنواع الأسلحة المتطورة وتكنولوجيا القتال وبدعم من قوى العالم الغربي وبسخاء غير مسبوق بالقنابل والصواريخ والأسلحة الآلية، في مقابل مجموعات من المسلحين بأسلحة أفراد داخل قطاع غزة الساحلي الذي لا تتجاوز مساحته مساحة مدينة صغيرة في أي دولة في العالم.

ألقى الطيران الحربي خلال هذه المدة القصيرة آلاف الأطنان من المتفجرات والقنابل المختلفة على هذه المساحة بما يعادل نصف قنبلة نووية بتقييم الخبراء، وقام بقطع كافة أنواع الإمدادات الأساسية من ماء وطعام ووقود، وقتل قرابة عشرة آلاف وهدم أحياء بكاملها، وشرد قرابة مليون ونصف مليون من مناطقهم.
كل هذا خلال عشرين يومًا، في حين أن العالم يندّد، ومظاهرات في كل عواصم العالم تدعو لوقف فوري لإطلاق النار، وهدنة إنسانية وإدخال مساعدات إلى القطاع، لكن الجيش المتسلّط وحكومة الحرب التي يقودها بنيامين نتنياهو ترفض بشكل قاطع الاستجابة لأيّ من هذه المطالبات، وتستمر الهجمات البربرية ضراوة وتستعر الحرب أكثر فأكثر مع مرور الوقت، في ظل تخبّط ملحوظ لجيش الاحتلال وعدم وضوح لأهداف الحرب في عملية انتقامية عقابية لجميع سكان غزة ردًّا على العملية الهجومية التي نفذها مجموعة مقاتلين من غزة يوم السابع من أكتوبر وأفضت إلى القضاء على فرقة كاملة من جيش الاحتلال وأسر ما يزيد على مئتين من جنوده في غضون ساعات، بمعركة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

لا استجابة

وفي ظل دعوات المجتمع الدولي المتكررة لإسرائيل إلى وقف إطلاق النار الفوري وإيقاف الهجمة البربرية ضد المدنيين العزّل، ومع ارتكاب إسرائيل المجازر وقصفها للمستشفيات والمساجد والكنائس وانتهاكها لجميع الأعراف والقوانين الدولية، لا تستجيب الأخيرة بل تستهجن كل من يدعوها إلى وقف إطلاق النار، وتستمر في حربها بضراوة أشدّ. لقد تقدم أكثر من عضو في مجلس الأمن بمسودة قرار لوقف إطلاق النار لكنه تلقى الفيتو الأمريكي في كل مرة، في رعاية كاملة وغطاء إجرامي واضح من قبل الولايات المتحدة والغرب لإسرائيل.

ودعت المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة أيضًا إلى التصويت على قرار لوقف إطلاق نار فوري وهدنة انسانية، وحازت على تصويت مئة وعشرين عضوًا، لكنها فشلت في الضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار.

إسرائيل بدورها تقول إنها لا يمكنها وقف إطلاق النار في غزة، وهي في خضم معركة للقضاء على حماس وتحرير الرهائن المحتجزين لديها، وبدأت حربا برية ضمن استراتيجيتها في تنفيذ هدفها، لكنها لا تتجرأ على الدخول إلى غزة سوى بضع مئات من الأمتار وسرعان ما تتراجع على وقع ضربات المقاومة، لتعود تقصف بطيرانها الحربي وتقذف بأطنان القنابل إمعانًا في سياسة الانتقام الذي تمارسه، وتدّعي أن هذه التوغلات ما هي إلا تكتيك لديها في حين يظهر لجميع المراقبين أن ذلك فشل في الدخول البري وبالتالي فشل في استراتيجية الحرب المركزية لدى الجيش.

في المقابل أبدت المقاومة الفلسطينية حسن نيات بإطلاقها لبعض المأسورين لديها دون مقابل، في محاولة لتقديم أوراق تفاهم على طاولة المفاوضات التي تتوسط فيها قطر وتحاول من خلالها التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى يكون محرّكًا لاتفاق شامل يشمل وقف إطلاق النار، لكن إسرائيل تتعنّت وترفض الاستجابة للوساطة القطرية وتستمر في نهجها وهو تدمير غزة على رؤوس أهلها.

سبب عدم قبول الهدنة

لكن لماذا تصرّ إسرائيل على عدم قبولها وقف إطلاق النار حتى ولو كان لبضع ساعات كي يلتقط المدنيون أنفاسهم؟ لماذا ترفض رفضًا قاطعًا مجرد التفكير في هدنة إنسانية، وهو ما يعد خرقًا واضحًا للقانون الدولي، إذ يعتبر وقف إطلاق النار لإجلاء المدنيين والجرحى أو تمكينهم من التقاط أنفاسهم وتقديم المساعدة حقًّا أساسيًّا في أي حرب بين أي أطراف مهما بلغت بهم درجة العداوة؟
لكن جيش الاحتلال يرفض ويتذرع بأنه لن يسمح لحماس بالتقاط أنفاسها، وهناك سبب آخر يرفض الاحتلال لأجله وقف إطلاق النار، سبب يمكن أن يضيع إنجازه الوحيد وغير الكامل ويفقده القدرة على استعادته مجددًا، إنه ببساطة خشيته من هجرة عكسية لأهل مدينة غزة وشمالها، أي عودة الناس إلى بيوتهم، وتوجّههم من جنوب القطاع إلى شماله، وبالتالي فشله في مخططه الأساسي وهو الاستفراد بالمقاتلين ومحاصرتهم، وهذا يعني بالضرورة سقوط المزيد من الضحايا المدنيين، وبالتالي ازدياد وتيرة الضغط عليه من قبل المجتمع الدولي، وعدم تمكنه من تحقيق أهدافه في المدى المنظور.

وهذا هو السبب الأساسي الذي دعاه إلى محاولة تنفيذ مخططه بشطر قطاع غزة إلى نصفين، ودخوله بريًّا من خاصرة غزة الرخوة كما يسميها المحللون ليصل إلى شارع صلاح الدين، لكي يمنع أهل غزة من العودة إذا استجاب للضغوط وأوقف إطلاق النار ولو بشكل مؤقت.

إن كل محاولات الجيش للدخول بريًّا إلى غزة تبوء بالفشل لأن جندي الجيش يشعر بالرعب الشديد لمجرد التفكير في الدخول إلى غزة، وأصبحت هناك فكرة لدى هذا الجيش بأن من يدخل غزة لا يعود منها، ومهما حاول جنرالات الحرب وضباطه تهيئة الأجواء القتالية وتحفيز جنود الجيش للدخول ومهما أشعرهم بالدعم والإسناد جوًّا وبرًّا وبحرًا، فلا يغير ذلك شيئًا في فكرة الجندي عن غزة. فبمجرد تلقيه لقذيفة مضادة للدروع أو صلية من رشاش آلي، يهرع لينسحب سريعًا من المكان، خشية أن يفقد حياته، وهذا ما يجعله لا يتمكن من المكوث ساعات في غزة إذا دخلها برًّا.

ولو كان ركامًا

الناس في غزة وتحديدًا هؤلاء الذين نزحوا جنوبًا، معظمهم يشعر باستياء كبير، ويتمنى أن تتاح له فرصة العودة إلى بيته، حتى ولو كان ركامًا، وذلك لسببين أساسيين، السبب الأول أن هذا الجيش خدعه حين قال له إن جنوب وادي غزة أماكن آمنة، فقُتل الناس جنوب الوادي بنفس درجة قتلهم شماله، بل وعانوا الأمرين لتوفير ماء الشرب والطعام لأطفالهم ولم يسعفهم أحد في مساعدات أو يمد لهم يد العون، وبالتالي خياراتهم أصبحت ضئيلة محدودة، وسيختارون العودة ليموتوا في بيوتهم فذلك أفضل لهم من هذا السيناريو الذي وقعوا فيه.
والسبب الثاني أنهم جرى زجّهم في مخطط للتهجير نحو سيناء، فبمجرد خروجهم من بيوتهم وتوجههم إلى جنوب غزة، بدأت الأحاديث تدور أنه سيجري ترحيل جميع أهالي غزة نحو سيناء، وهو ما حدا بمصر إلى أن تقف في وجه المخطط وترفضه بشكل قاطع، ويرفضه الفلسطيني نفسه لأنه يعلم يقينًا أنهم سيلقونه في الصحراء وأنه بمجرد إخراجه من غزة فلن يعود إليها من جديد وستكون بمثابة هجرة جديدة للفلسطينيين وكارثة أخرى تضاف إلى الكوارث التي يمر بها، وبالتالي أصبح الفلسطيني يفكر بطريقة صدامية وغير مكترثة، وأنه سيعود إلى بيته ليعيد ترتيب نفسه وليحصل ما يحصل بعدها، المهم أن لا يجري خداعه من جديد.

من الجدير بالذكر أن لدى الاحتلال قرابة مئتي ألف مهجر أيضًا من غلاف غزة جنوبًا وشمال الأراضي المحتلة على الحدود مع لبنان، وبمجرد إعلان هدنة إنسانية سيخرجون عليه ليسألوه عما أنجز وهل وفر لهم الأمن المطلوب ليعودوا إلى بيوتهم، وحينما يجدون أن الإجابة سلبية سيستشيطون غضبًا.
غضب قد يفضي إلى خلافات داخلية لا تمكن الجيش من معاودة نشاطه الحربي ضد غزة أو لبنان، وبالتالي حالة الحرب تعني أمرًا واحدًا هو شراء المزيد من الوقت، لجنرالات حرب وخلفهم رئيس وزراء علّهم يحققون أيّ هدف أو صيد ثمين، في حين أنهم لا يعرفون ما يفعلون حيال الأزمة التي وُضعوا فيها، بل إن الهدنة الإنسانية تعني رفع الغطاء عن جرائم الحرب التي مورست خلال هذه المدة، لأن ما يجري تداوله على الإعلام لا يمثل أكثر من عشرين بالمئة من حقيقة ما اقترف الجيش من جرائم.

يفهم قادة هذا الجيش ومن خلفهم نتنياهو هذه الأمور جيدًا، ويعرفون أنهم خدعوا الجميع، بداية بمجتمعهم الداخلي، وأهالي غزة، وصولًا إلى حلفائهم والمجتمع الدولي، وبالتالي فالحديث عن هدنة إنسانية يعني ضربًا من ضروب الانتحار لدى قادة سياسيين وعسكريين من هذا النوع.
صحيح أن حجم الضغوط يزداد عليهم، صحيح أن الحرب وعدم وضوح أهدافها وجبن جنودهم وفشل خططهم كل ذلك يلقي بظلاله على المشهد، لكنهم لن يتمكنوا من إيقافها بأي شكل من الأشكال، ولا الحديث عن اتفاق من أي نوع، لأنه يعني نهايتهم السياسية جميعًا، هذا إن لم تجر محاكمتهم على تقصيرهم، لهذا فهم يسارعون إلى إلقاء اللوم بعضهم على بعض، ويسارع قائدهم الأعلى صاحب فكرة الحرب غير المتوقفة ليلقي اللوم حول ما حصل في السابع من أكتوبر على قادة أجهزة الأمن، ويبرئ نفسه من المسؤولية.

يعلم الجميع أنه بمجرد توقف هذه الحرب، سيطاح برؤوس الجميع من سدة القرار، بل ستدخل إسرائيل هذا الكيان الهش أزمة ثقة قد لا تخرج منها أبدًا إلا نحو المطارات والسفن لمغادرة هذه الأرض المشؤومة بعد جرائم الحرب التي ارتكبوها طوال أكثر من سبعين عاما، هذه هي بداية النهاية، ويعلم بيبي نتنياهو هذا الأمر، لذلك يصعد إلى قمة الشجرة، ويتمسك بأضعف غصن فيها: الحرب.

المصدر : الجزيرة مباشر