السودان المُخلص للانقلابات العسكرية!

حميدتي

 

الاقتتال المشتعل في السودان، منذ صباح السبت الماضي، هو حرب أهلية عسكرية، بين الجيش النظامي، وفصيل عسكري هو في الأصل مليشيا تُعرف باسم قوات الدعم السريع، وتم قبولها ومنحها شرعية، وإطلاقها لتقتل في دارفور في عهد نظام عمر البشير، وتقمع المتظاهرين في الخرطوم وتقتلهم أيضا بعد إسقاط البشير، وتصير لاعبا عسكريا وسياسيا واقتصاديا وماليا رئيسيا في السودان.

الاقتتال بين سلطة عسكرية برأسين؛ الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الحاكم، ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”، ولاحِظ أن الرتب تُمنح بسخاء للعسكريين، ليس في السودان فقط، إنما في الجيوش العربية، فهناك من لم يطلق رصاصة واحدة في حرب ويترقى إلى أعلى الرتب التي قد لا يصل إليها قادة كبار حاربوا وحققوا انتصارات لبلدانهم.

 “القراية مش كل حاجة”

لا أتهكم على (حميدتي) كما يفعل البعض من سودانيين وعرب، فليس هو وحده الذي لم يكن بلا ذكر، أو كانت بدايته متواضعة، أو تمّت الاستعانة به من سلطة البشير لممارسة مهام مليشياوية فيها إزهاق للأرواح، ثم يصبح رقما خطيرا في معادلة الحكم وصناعة القرار، بل هو الذي يتهكم ويقول: “القراية مش كل حاجة”، يقصد القراءة والثقافة والعلم، فهكذا عواصم العرب، تعج بأمثاله في مبتدأ حياتهم، ثم يصلون إلى مستويات عليا في هرم السلطة والمناصب، وسيظل هذا الخلل الشائن قائما طالما أن منظومات الحكم لاعلاقة لها بالرشادة السياسية والاختيار الشعبي الحر لمن يقود الشعوب ومن يمثلها.

كل شيء مُتوقع في عواصم العرب التي تسير عكس حركة التاريخ، وتُخاصم العقل والمنطق وطبائع الأشياء، وتكره الديمقراطية؛ فكرة ومعنى وممارسة ووجودا وتطبيقا، وهذه الديمقراطية أنقذت أوربا من الحروب الأهلية والثنائية والجماعية، وخلصتها من الاستبداد باسم الحاكم والسياسة والدين، وعالجت التعصب والأحقاد وغياب المساواة وضياع الحقوق، وصنعت مجتمعات متآلفة متعايشة، وبنت دولة الدستور والقانون، ومهدت الأرض أمام حضارة حديثة وفرت الرفاهية والاستقرار والأمان لشعوبها.

إذا كان الحوار هو أساس التفاهم في السودان، والديمقراطية هي نهج الحكم، ما كان اقتتال وقع بين جيش وكتائب عسكرية،، ولا سقط ضحايا أبرياء، ولا تفاقمت أزمات السودان وأهله، وهي كثيرة ومتشعبة ومعقدة، ولم تكن وحدة ما تبقى من السودان بعد انفصال الجنوب عنه صارت مهددة.

تاريخ من الانقلابات

هذا السودان مُخلِص لتاريخه في الانقلابات العسكرية، فلا جديد في ما يحدث حاليا، فهو معتاد على ذلك، إنما الجديد أن الانقلاب هذه المرة يجري بين المنظومة العسكرية الحاكمة والمفترض أنها جسد واحد، أما الانقلابات السابقة فقام بها الجيش كالمعتاد ضد حكومات مدنية، أو ضد أنظمة وصلت إلى السلطة عبر القوة المسلحة ثم فشلت واستبدت، وهناك انقلابات فاشلة حركها ضباط على انقلابيين أمثالهم دخلوا القصر الجمهوري عبر الدبابة، والبرهان وحميدتي قاما معا بانقلاب سياسي على المكون المدني شريكهما في الحكم خلال أكتوبر/تشرين الأول 2021، حتى لا يغادرا السلطة.

والسودان مُخلِص لانتمائه العربي والأفريقي في الانقلابات، فالفضاء العربي انقلابي بامتياز من المحيط إلى الخليج، والانقلابات إما عسكرية صريحة، أو تتخفى وراء جماهير غاضبة، أو سياسية مدعومة من الجيوش، أو انقلابات قصور حكم، أو طائفية ومذهبية في تشكيل الحكومات واختيار القيادات، وقل في انقلابات أفريقيا ما تشاء.

السودان والربيع والفشل

الربيع العربي تم إفشاله في تثبيت دعائم حكم طبيعي مصدره إرادة الشعوب عبر صناديق انتخابية وآليات ديمقراطية، فالدول التي نجحت ثوراتها لم تنجح بشكل مماثل في الإصلاح السياسي الديمقراطي (مصر وتونس).

والدول التي كانت تُبشر بالانعتاق من الديكتاتورية دخلت في حرب أهلية كما في اليمن وليبيا، أما سوريا فلم يكن نظامها الوراثي القمعي على استعداد للاستماع لصوت الشعب أبدا، لهذا جر البلد إلى حريق ودمار وإرهاب.

والسودان الذي ثار شعبه وقدّم تضحيات طوال أشهر ضد ديكتاتورية عسكرية تتمسح بالدين انتهى إلى حكم جنرالات ينقلبون على الشريك المدني الذي كان أحق بالحكم، ثم ينقلب المكون العسكري على نفسه اليوم.

والجزائريون الذين أجبروا رئيسا مريضا خارج الوعي الشخصي والسياسي على مغادرة السلطة (بوتفليقة) يظل الجيش لاعبا من وراء الستار في وجود رئيس منتخب، وفي الجوهر لا تغيير حقيقي فيه، أو في غيره من بلدان موجتي الربيع.

 التغيير الصعب

هل العرب توطّنوا على حكم الفرد، وبات الإصلاح شبه مستحيل أو صعبا؟ أم إن أنظمة معينة تقاوم التحول الديمقراطي بكل ما أُوتيت من قوة وأموال ونفوذ لمنع أي بارقة أمل في التغيير الحر خشية على نفسها؟ وربما لهذا كانت مصر وثورتها مستهدفة بأسرع من غيرها، ومن سوء الطالع أن يتصدى للحكم فيها تيار يسهل النفاذ إليه والخلاص منه لتاريخه ومواطن ضعفه، وكان واهما في حساباته الداخلية والخارجية، فسقط وأسقط معه أحلام تأسيس حكم ديمقراطي جاد وحقيقي.

لقد تم الالتفاف على الثورة السودانية، ولم يحكم من ضحوا لأجلها، إنما حكم الجيش، كما حصل في بلدان أخرى، أو حكم مدنيون، دون أن يكون لديهم قوة تحميهم، فتم التلاعب بهم من قوى الحكم القديمة التقليدية، أو دخلوا في خلافات فخسروا الشارع، والنتائج ماثلة أمامنا في أنظمة حكم جديدة هى امتداد للقديمة، لكنها أشد في قبضتها الحديدية، وغلق كل متنفس حتى لا يكرر التاريخ نفسه، إنما المفارقة المذهلة أن هذه الأنظمة التي تكافح لقمع أحلام وتطلعات التغيير تفشل في تأمين العيش المعقول لشعوبها، لهذا لا عجب أن يواصل الحنين جرف الشعوب إلى الماضي، والمدهش أن يأخذ الحنين العراقيين إلى عهد صدام حسين أيضا، في أحدث استطلاع رأي، بعد عقدين على إسقاطه.

لننتظر مآلات السودان المُبهمة حتى كتابة هذا المقال، والغالب أن القادم في بلاد العرب ليس مبشرا.

المصدر : الجزيرة مباشر