لماذا ترفض التشيلي دفن دستور الديكتاتور بينوتشيه؟!

حمل لافتة عليها وجه أوغستو بينوشيه (ديكتاتور تشيلي السابق) كُتب عليها: "نريد النظام" خلال مظاهرة موالية للشرطة التشيلية

 

شهدت التشيلي هذا الشهر، انتكاسة جديدة للأحزاب اليسارية وللرئيس غابرييل بوريش على وجه الخصوص، تُضاف إلى حصاد هزيل لمئة يوم في الحكم، حيث تمكّن اليمين من الفوز بشكل مُريح في تركيبة اللجنة الدستورية المكلَّفة بإعداد مسودة دستور جديد يحلّ محلّ دستور الديكتاتور العسكري أوغستو بينوتشيه. وبناء على هذا الفوز، سيجد التشيليون أنفسهم بعد ثمانية أشهر، أمام استفتاء يعرض خيارين أحلاهما مُرّ: إما استمرار العمل بدستور بينوتشيه، أو اعتماد دستور جديد من تأليف أغلبية يمينية مستفيدة بطبعها من دستور بينوتشيه.

الصياغة الخبيثة

قبل الخوض في أسباب الوصول إلى هذا المشهد في التشيلي، تجدر الإشارة الى أن ما يُعرف بدستور الديكتاتور بينوتشيه، شهد 62 تعديلا على مدى الحكومات المتعاقبة منذ نهاية حكمه في 1990، لكنه بقي ساريا، بفضل صياغته “الخبيثة دستوريّا” التي حالت دون إلغائه بشكل كامل، أو على الأقل التخفيف من النزعة الديكتاتورية الغالبة على مجمل فصوله.

ومنذ تولّي الرئيس بوريش منصبه في يناير/كانون الثاني 2022، عاشت التشيلي استفتاءين بشأن إعداد مشروع لدستور بديل، آخرهما الاستفتاء المذكور في مقدمة المقال، الذي سيبدأ أعضاء اللجنة الدستورية المنتخبون على أساسه، عملهم في 7 يونيو/حزيران المقبل، وسيُعرض على الاستفتاء في ديسمبر/كانون الأول المقبل. أمّا الاستفتاء الأول، فقد أُجري في سبتمبر/أيلول الماضي، ومثّلت نتيجته صدمة حقيقية لحكومة الرئيس بوريش التي راهنت عليه كعنوان قطيعة مع ماضي الديكتاتورية في التشيلي، لكن الفرز أكد حينئذ رفض 62% من ناخبي التشيلي مسودة حلفاء بوريش. وفي الحالتين، يمكننا الجزم بأن اليمين نجح في توجيه الرأي العام نحو الانتقام من “الرئيس اليساري” بوريش، عبر رفض مسودة دستوره “الاشتراكي” حسب وصفهم، والتصويت لنخبة يمينية تتفرغ لصياغة دستور بروح رأس المال الجاثم على كل ثروات التشيلي منذ عقود. وقد جاءت النتائج على الشكل المذكور لأسباب عدة، من أبرزها الشيطنة الممنهجة التي اعتمدتها ترسانات الإعلام المملوكة لبعض أثرياء التشيلي، للتهكم على نصوص دستور “بوريش”، على مدار اليوم في السنة الماضية، والنفخ في صورة مرشحي الأحزاب اليمينية، إلى أن فازوا بـ34 من إجمالي 51 مقعدا في اللجنة المذكورة. في المقابل، يرى حلفاء “بوريش” أن مسودتهم مثّلت ثورة على دستور بينوتشيه، من خلال تركيزها على إقرار حقوق اجتماعية مسلوبة، لا سيما على صعيد التعليم والصحة والسكن، والاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية والحق في الإجهاض.

الغريب أن تصويت 62% من ناخبي التشيلي لمرشحي اليمين من أجل إعداد مشروع الدستور البديل، تأتي في ظل إحياء التشيلي هذه السنة ذكرى مرور خمسين عاما على حدوث انقلاب الديكتاتور العسكري بينوتشيه على الرئيس اليساري السابق سلفادور أياندي في 1973. ورغم أن جرائم بينوتشيه في حق معارضيه وفي حق المال العام للبلاد، بلغ صداها العالم بأسره، فإن النسبة الأخيرة المذكورة تعكس -بما لا يترك مجالا للشك- عجز التشيلي عن دفن ذكرى ديكتاتورها، وكأن الرجل لا يزال حاكما للبلاد، ما دام دستوره ساريا حتى الآن. وعلى الرغم من أن احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 نجحت في إرغام حكومة الرئيس السابق سباستيان بينيرا على تجاوز “حيلة” المراجعات الدستورية، وإجراء استفتاء لاختيار أعضاء لجنة دستورية مكلَّفة بإعداد مسودة تنسف دستور بينوتشيه بشكل تام، فقد صوّت أغلبية التشيليين للجنة تضم أغلبية يمينية رحيمة بدستور بينوتشيه وذكراه!!

الانتحار كمدا

لفت نظري وأنا أتابع بعض البرامج الحوارية بشأن المشهد السياسي هناك، على إحدى المحطات التلفزيونية اليمينية المتطرفة، أن حلقة النقاش جمعت ضيوفا من أحزاب مختلفة، للحديث عن ذكرى الانقلاب، وكان الإعلامي فيها يُدير النقاش، مُذكّرا المشاهدين بصدور كتاب لأحد ضيوفه “المُبجَّلين”، تحت عنوان “خمسون سنة على انقلاب سلفادور أياندي”!! وكان الكاتب مؤمنا، بل مُروّجا لفكرة أن أياندي هو الديكتاتور!! ولم تفلح مداخلات الضيف المقابل في تفنيد الفكرة من خلال تذكير الكاتب والإعلامي معا، بأن أياندي كان الرئيس الذي حكم التشيلي لمدة ثلاث سنوات فقط، وبمجرد تعيينه لبينوتشيه وزيرا للدفاع، انقلب عليه في أقل من شهر، وما كان من الرجل إلا الانتحار كمدا قبل قدوم جحافل العسكر المدججين الى القصر الرئاسي في ذلك الوقت، وأن بينوتشيه هو من استبد بالبلاد والعباد من 1973 إلى 1990، وتمّ اتهامه دوليّا بارتكاب مجازر بشرية، وبالإرهاب والفساد المالي والتهريب وغيرها من التهم المُخجلة.

يكاد يكون من الواضح أن الأحزاب اليمينية في التشيلي، قد ضمنت من خلال التصويت الأخير، هزيمة الرئيس الحالي بوريش والأحزاب اليسارية المتشرذمة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وطيّ صفحة أحلام الشاب الفتيّ وناخبيه، في أن تسود قيم التوزيع العادل لثروات البلاد، ووضع حدّ لجشع القطاع الخاص.

إضافة إلى ما سبق، نجحت تركيبة البرلمان الحالي (155 مقعدا) ومجلس الشيوخ (50 عضوا) في حرمان الرئيس بوريش وسنده الحزبي من تحقيق الأغلبية، حيث مثّلت الأحزاب اليمينية في كل المناسبات التشريعية، كتلة صلبة متفقة على تعطيل جميع مقترحات الحزب الحاكم وحلفائه.

من المؤكد أن ما حصل في التشيلي بشأن الحرص على عدم دفن حقبة بينوتشيه وآثاره، يستوجب دراسة اجتماعية ونفسية عميقة، توضّح العوامل التي تجعل المجتمعات تهاب ديكتاتورييها حتى بعد وفاتهم!!

المصدر : الجزيرة مباشر