أولاد الأكابر.. والرسوب الجماعي بـ”كليات طب”!

توالت الأخبار الصادمة عن الرسوب الجماعي بين طلاب الفرقة الأولى في ثلاث كليات للطب، وطب الأسنان، بجامعتي أسيوط وجنوب الوادي في مصر العليا (صعيد مصر- جنوب البلاد).

ففي “جامعة جنوب الوادي”، بلغت نسبة الراسبين 80%، بين طلاب السنة الأولى بكلية طب الأسنان في مدينة قنا، ولم ينجح سوى 20% فقط. كما فشل 70% من أقرانهم في كلية الطب البشري بنفس الجامعة، في اجتياز اختبارات الفرقة الأولى، ورسبوا، مقابل نجاح 30% منهم. وبلغت نسبة الرسوب في الفرقة الأولى بكلية الطب البشري بأسيوط 60%، لتكون نسبة النجاح 40% فقط من إجمالي طلاب هذه الفرقة. ويُذكر أن نسبة نجاح الطلاب المقبولين بهذه الكليات في الأعوام السابقة كانت لا تقل عن 75%، وقد تصل إلى 90%.

الغش الجماعي.. والخلل التعليمي

الصدمة مبعثها أن هذه الكليات مصنفة ضمن “كليات القمة”، فلا يلتحق بها إلا الطلاب المتفوقون بنسبة تزيد على 90% من مجموع درجات امتحانات شهادة الثانوية العامة. فلماذا إذن هذا الفشل والرسوب بعد التفوق، لهؤلاء الطلاب خلال “أشهر قليلة”، أمضوها في عامهم الدراسي الأول بكلياتهم؟ هل كان تفوقهم زائفا، ونتاجا لعمليات الغش الجماعي التي شاع الجدل حولها في عدة مدارس بالصعيد، واشتهرت على مواقع التواصل الاجتماعي بـ”لجان أولاد الأكابر”؟ هذا الاحتمال (الغش الجماعي في الثانوية العامة)، ألمح إليه كل من رئيس جامعة جنوب الوادي الدكتور يوسف غرباوي، وعميد كلية طب أسيوط الدكتور علاء عطية، وأكدا أن نظام الاختبارات بهذه الكليات لم يتغير، وأن النتائج تعكس مستوى التحصيل لدى الطلاب.

لدينا خلل كبير في مخرجات التعليم قبل الجامعي، ونواتجه، لتدني الإنفاق عليه. هناك مشكلات عديدة، منها العجز الشديد في المعلمين بالمدارس، بنسبة 35% قابلة للزيادة، مع خروج نحو 50 ألف معلم سنويا إلى المعاش، دون تعيين بُدلاء من الخريجين الجُدد. كما أن هناك نقصا متزايدا في عدد الفصول الدراسية بأكثر من مئتي ألف فصل (حجرة دراسية)، لعدم إنشاء مدارس كافية، لاستيعاب الطلاب الجُدد، فتزداد الكثافة، ويقل استيعاب التلاميذ وتحصيلهم المدرسي، فيكون الحل في الدروس الخصوصية لمن استطاع إليها سبيلا.

التابلت والعصي الإلكترونية.. واختراق ضوابط الغش

هذا فضلًا عن عشوائية القرارات التعليمية، التي تشمل المقررات الدراسية ونُظم الامتحانات، مع عدم توفر مقومات التطبيق، على شاكلة ما حدث من فشل لوزارة التعليم في تعميم الامتحان الإلكتروني، باستخدام التابلت. الطبيعي أن هذه المعضلات التعليمية تؤدي إلى انتشار الفوضى في المدارس، وتراخي قبضة الوزارة على العملية التعليمة، وامتحانات “شهادة الثانوية العامة” ليست استثناءً من هذا، رغم القواعد والضوابط التي تقررها وزارة التعليم، بُغية تحقيق الانضباط ومنع “الغش” بالعموم.

هذه “الضوابط”، لا تحول دون تجاوزها، ووقوع حالات غش فردي، أو جماعي، وتسرّب بعض الامتحانات، حسبما “يُشاع” وينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل ضبابية البيانات التي تصدُر عن وزارة التعليم في هذا الشأن، ولا سيما أن العقلية المصرية تمتلك مهارات لا يُستهان بها في إيجاد الثغرات لاختراق أي نُظم، أو قوانين، وابتكار طُرق للتحايل. إذ إنه رغم منع الهواتف الجوالة والأدوات الإلكترونية والتفتيش عنها بالعصي الإلكترونية، فإن البعض يُفلت من هذه الإجراءات كلها، وآية ذلك ما جرى تداوله العام الماضي، عن تفوق مجموعة من طلاب شهادة الثانوية العامة تجمعهم صلة القرابة، وغيرها من الحالات.

الغش والتفوق الزائف.. وتفاهُمات غير مكتوبة

عودة إلى وقائع “الرسوب الجماعي” بكليات الطب بجامعتي أسيوط وجنوب الوادي، فما دام حال العملية التعليمة والامتحانات على نحو ما أسلفنا بيانه، فيكون منطقيا في ظل هذه العوامل، هُزال ناتج العملية التعليمية، وفقر التأهيل الدراسي في غالب الأحيان. ولا يكون غريبا أن “بعض” طلاب هذه الكليات المرموقة لا يستحقون الالتحاق بها، لكون تفوقهم زائفا، غير مستحق، لأنه نتاج للغش. أضف إلى ذلك كله، وجود “الغش” في سنوات ما قبل الثانوية العامة بدرجات متفاوتة في بعض المدارس، وفقًا لتفاهُمات غير مكتوبة بين إدارات “المدارس” ومعلميها، للوصول إلى نتائج مُرضية للإدارات التعليمية ومن بعدها المديريات، تجنُّبًا لما يترتب على انخفاض نسبة النجاح بالمدارس من تحقيقات وعقوبات للمعلمين والمديرين.

قضية أخلاقية خطيرة.. والكذب والخداع والانتهازية

“الغش الجماعي” الذي كشف عنه هذا الرسوب المدوّي لطلاب كليات تتربع على قمة الهرم التعليمي الجامعي، هو قضية أخلاقية خطيرة، إذ نكون بصدد أطباء ومهندسين ومعلمين ومحامين، وصحفيين، مارسوا “الغش” في واحدة من محطات حياتهم، مقابل رُشى أو وساطات خبروها وعاشوها، ووجدوا فيه سبيلا يسيرا للنجاح، والالتحاق بالكلية المرغوب فيها. هكذا، يكتسبون هذه الرذيلة المقيتة (الغش)، بديلا عن قيم العمل والعرق والاجتهاد لتحقيق أحلامهم، ويكتسبون قيما أخرى وثيقة الصلة بالغش مثل الكذب والخداع والانتهازية والارتشاء.

هذه القيم المُدانة ومثيلاتها، تصير هي المُحرك لسلوكيات هؤلاء “الغشاشين”، ونهجا لحياتهم العملية لاحقا، وبدلا من خدمة “المجتمع” وأفراده، والمساهمة في تقدمه، يتحولون إلى معاول للهدم سعيًا لمغانم خاصة، ولو على جثث الناس. ذلك أن الطبيب بإهماله، وحاجته إلى الإثراء السريع، قد يقتُل المريض، والمهندس قد يُهمِل في الإشراف على أعمال “البناء”، مقابل عطية أو مغنم، فيسقط على رؤوس الأفراد، ويكون طبيعيا انتشار الغش في الأغذية وربما الأدوية، والسرقات وغير ذلك مما يؤذي المجتمع كله، ويلحق به أفدح الأضرار.

هذه النتائج لكليات الطب والأسنان تدق أجراس الخطر، لإصلاح “التعليم”، وإعلاء شأنه، فهو الاستثمار الأمثل في البشر، والأكثر نفعا للدولة والمجتمع، وهو أسرع طريق إلى النهضة والتقدم والرفاهية.. هكذا تخبرنا سيرة الأمم المتقدمة.

نسأل الله السلامة لمصرنا المحروسة.

المصدر : الجزيرة مباشر