إنها سوريا العظيمة وليست سوريا بشار الأسد

في ذكرى رحيل مي سكاف

مي سكاف

 

 

لم تكن مي سكاف الفنانة السورية الوحيدة التي خرجت في المظاهرات ضد بشار الأسد منذ اندلاع الشرارة الأولى للثورة السورية، لكنّها الوحيدة التي تحوّلت إلى أيقونة لكلّ الأحرار السوريين بسبب مواقفها الصريحة والحادة وغير المهادنة. ظلّت مي سكاف تبكي سوريا وتحنُّ للعودة إليها، وتبكي السوريين الذين هُجّروا وماتوا غرقًا وحرقًا وذبحًا وتعذيبًا إلى أن جفّت دموعها فنزف دماغها دمًا، وكان آخر ما بذلته لأجل سوريا العظيمة.

ومن الضروري أن نذكر الفنانة “فدوى سليمان” التي خرجت في أولى المظاهرات في مدينة حمص بجانب عبد الباسط الساروت، وهتفت، وغنّت للثورة، وغادرت سوريا أيضًا إلى فرنسا، وماتت هناك وحيدة ومنفية وبعيدة عن وطنها الذي خاطرت بحياتها لأجله عن عمر ناهز 47 عامًا، قبل وفاة مي بسنة.

من الصعب أن تكون سوريًّا وتهرب من الموت

لم تهرب مي سكاف من سوريا وتستقر في باريس ترفًا، بل بعد اعتقالها لخروجها في مظاهرة “المثقفين” في حي الميدان الدمشقي، والتضييق عليها إلى درجة صارت تشعر بالخوف والرعب من التحرّك في دمشق، وقد احتضنتها عاصمة الحريّة -كما يدّعون- وبقيت هناك تصرّح بأمنيتها الوحيدة “العودة إلى سوريا وسقوط بشار الأسد”، حتّى ماتت عن عمر يناهز الـ49 عامًا في أوج عطائها.

أثبتت الإحصائيات غير الدقيقة أن الشعب السوري هو أكثر الشعوب المنكوبة من الحروب تضررًا وفقدانًا، بعد أن كانت الجزائر مضرب المثل في عدد الشهداء حتى أُطلق عليها بلد المليون شهيد!

حطّم الأسد الابن الأرقام القياسية العالمية بعدد القتلى والمُهجَّرين والشهداء والمعتقلين، فلم تتسع سجونه عام 2012 لاحتجاز المعتقلين، فاستخدم الملاعب لاحتجازهم! وفاق الطغاة كلهم عبر التاريخ في فن التعذيب والقتل والتدمير.

مي سكاف والنجومية

لم تكن مي سكاف “نجمة” بالمعنى المتعارف عليه، بل ممثلة تعطي للدور روحها كاملة، فقد قامت بدور الأم في أحد المسلسلات لصديقتها “صبا مبارك”، وكانت مقنعة جدًا في ذلك الدور، وأول دور مثّلته ولفت الأنظار إليها كان دور “تيما” في مسلسل العبابيد، ففي ذلك المسلسل بكت مي سكاف وهي تقول: “الموت في كلّ مكان”، ولم تنشف دموع مي، فقد بقيت تبكي حتى آخر يوم في حياتها على أحبابها في سوريا، سواء من رحلوا أو من بقوا أجسادًا في الحياة بلا روح.

لكن أدوارها الأكثر تميّزًا كانت في مسلسل “ربيع قرطبة” الذي أخرجه المرحوم حاتم علي، ومسلسلات أُخر مثل “عمر بن الخطاب” و”الشتات” و”طوق الأسفلت”، وآخر أعمالها كان عام 2017 مسلسل “أوركيديا” الذي مثّلت فيه شخصيّة عرّافة.

مآلات الثورة السورية

ماتت مي ولم تفقد الأمل، لكن ماذا لو بقيت إلى الآن؟ هل ستظلُّ مصرّة على عبارتها التي حوّلتها إلى أيقونة من أيقونات الثورة السورية؟ هل كانت ستصدق حقًّا أنّ الأمل في عودة سوريا وسقوط الأسد ما زال موجودًا؟ هل ستحمل لافتتها “لن أفقد الأمل، إنّها سوريا العظيمة وليست سوريا بشار الأسد” وتهزم الموت؟ ربّما ستبقى اللافتة لكنّها ستصبح صليبًا يشبح عليه النظام السوري آمال السوريين كلهم بعد مضي 5 أعوام على رحيل صاحبتها.

“لقد فقدنا الأمل”، هذا ما يهتف به معظم السوريين الآن حتى هؤلاء الذين أيّدوا نظام الأسد منذ البداية وحتّى اللحظة. أنطقهم الجوع الذي قرض آمالهم، وجعلهم يعبّرون عن ضيقهم من الوضع ولو عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

مآلات الوضع في سوريا لم تعد تناسبها عبارة مي سكاف

يُجمع معظم السوريين الثوريين اليوم على أن الثورة انتهت عمليًا سنة 2013 عندما استتب الأمر لأمراء الحرب من قادة الفصائل التي كانت -وما تزال- تدّعي أنها ثورية، وأنها ما خرجت إلا لله. مكّنهم الداعم من الاستمرار وضمن لهم “الشرعي والأمني” الهيمنة على رقاب البشر. في ذلك الوقت تحديدًا، اطمأنت الثورة المضادة إلى أن السفينة تجري حسب رياحهم، وفي الثورة المضادة تمّ التواطؤ الضمني بين فصائل الرايات الإسلامية المتعددة مع فصائل النظام المحلية والدولية. استمرّ القتل والتهجير والتدمير، وبدأت مصانع الكبتاغون بالتوالد والتكاثر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، إذ يقوم اقتصاد الدولة برمّته على هذه التجارة، مما جعل بشار الأسد زعيم أكبر عصابة مخدرات في العالم، مدعومًا من نظامين استبداديين يمتصان خيرات سوريا التي باعها لهما عن طيب خاطر، أو مرغمًا، لا فرق.

ما تزال سوريا قابعة في موصوفها الأسدي شكلًا، لكنّها في المضمون خاضعة لأبشع احتلال يعمل ليل نهار على تغيير بنية المجتمع السوري بعد أن حصل التغيير الديموغرافي.

لم تعد سوريا “سوريا الأسد” يا مي! كما أنها لم تعد سوريا العظيمة، فلقد أنهكت الاحتلالات الخمسة كيانها، وباتت محاصرة بالجوع والسرطان، بلا دواء ولا ماء ولا كهرباء ولا طاقة، وفوق هذا إغلاق الأبواب كلها بوجوه أبنائها وسط ارتياح عربي وعالمي لهذا المصير، وبات من سخريات الوضع أن نردد عبارة “محكومون بالأمل”، أو “لن نفقد الأمل”!

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر