العلاقة بين السّياسة والأخلاق في التصوّر الغربي وانتصار ميكافيلّلي

 

“لا أخلاق في السّياسة ولا سياسة في الأخلاق” العبارة الأكثر ترديدًا على ألسنة النّاس عند الحديث عن العلاقة بين السّياسة والأخلاق؛ هذه العلاقة التي ما تزال مثار جدل مستمرّ في أنحاء العالم، ومن المُسلّم به أنّ النّوايا الطّيبة لا تكفي لتحقيق سياسةٍ ناجحة وأنّ السّياسة تقوم على الحنكة والمهارة والتّكتيك والاستراتيجية، ولذلك فإنّنا عندما نتحدّث عن العلاقة بين الأخلاق والسياسة فإنّنا نقصد بذلك أمرين اثنين؛ أولهما: مدى حضور حزمة القيم الأخلاقيّة المتّفق عليها في العمل السّياسي، وثانيهما: تفكيك وضبط العلاقة الشّائكة بين أهداف العمل السّياسي والوسائل الموصلة إليها.

العلاقة العضويّة بين الأخلاق والسياسة

انقسمت الرؤية الغربيّة للعلاقة بين السياسة والأخلاق إلى مدرستين وتصورين؛ الأوّلى: مدرسة الفيلسوف الألماني كانط التي تقوم على تبنّي العلاقة العضويّة بين الأخلاق والسياسة، واعتبار السياسة الفاقدة للأخلاق وبالًا على المجتمع والجماعة التي تمارَس فيها، وكان كانط لا يفتأ يؤكّد أنّ السّياسة تقتضي معاملة الإنسان بوصفه غايةً في ذاته.

ويمثّل هذه المدرسة إلى جانب كانط الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي كان يقول عنه كانط: “روسو هو نيوتن العالم الأخلاقي”، وكانط وروسو امتداد فلسفي وفكري لمدرسة أفلاطون الذي يبيّن في كتابه “الجمهورية” أنّ الهدف الرّئيس للدّولة هو تحقيق حكم الفضيلة والنزاهة والاستقامة على هذه الأرض. وكان أفلاطون يبيّن أنّ أيّ مجتمع أو مجموعة تكون عادلة صالحة بمقدار توفّر صفات أربعة في سلوكها السياسي؛ أولها: الحكمة، ويقصد بها حبّ المعرفة والسعي لها والبحث عنها، وثانيها: الشّجاعة التي تتمثل في القوة الأخلاقيّة، وثالثها: الاعتدال في الأهواء والشّهوات، ويقصد بها أن يكون الحاكم أو المسؤول وصاحب القرار رزينًا قادرًا على التحكم بأهوائه الذّاتية ورغباته الشّخصيّة، ورابعها: العدل؛ أي أن يكون أفراد الدّولة أو الجماعة قادرين على القيام بمهماتهم بناء على الكفاءة والقدرات لا غيرها من المعايير.

وترى هذه المدرسة أن السّياسة تكون أخلاقيّة بمقدار تحقيق هذه الصّفات في السلوك الأخلاقي، إلى جانب رفضها ممارسة أيّ فعلٍ غير أخلاقيّ للوصول إلى غاية سياسيّة ولو كانت هذه الغاية أخلاقيّة.

انتصرَ ميكافيللي

من المؤسف أنّ الواقع السّياسي الغربيّ يؤكّد أن هذه المدرسة هزمت أمام المدرسة الثانية وهي التي تؤسّس لفصل السّياسة عن الأخلاق ويمثّلها المفكّر الإيطالي نيكولو ميكافيللي في كتابه “الأمير” الذي ألّفه عام 1513م ولم يُنشر إلّا عام 1532م، بعد وفاته، هذا الكتاب الذي يعدّ اليوم “الكتاب المقدّس” للعمل السّياسي في المنظومة العلمانيّة واللّيبراليّة.

وميكافيللي هو صاحب العبارة الأكثر تداولًا في عالم السّياسة اليوم “الغاية تبرّر الوسيلة”، كما تنسب إليه النّظريّة الميكافيلية التي تؤسّس للفصل بين السياسة والأخلاق.

والميكافيللية تقرّر أنَّ نجاح العمل السّياسي يكون بقدر ما يحقّقه من نتائج وآثار وما يفترض أنّه مصالح في الواقع، مثل الحفاظ على وحدة الدّولة واستقرارها والمحافظة على النّظام من حيث وجوده وقوّته، مهما كانت الوسائل الموصلة إلى ذلك غير أخلاقيّة وبعيدة عن القيم المقرّرة.

بل إنّ الأمر يصل بالميكافيللية إلى اعتبار الأخلاق مضرّة بالسّياسة، فالالتزام الأخلاقيّ يعرقل النّجاح، والدّول والجماعات التي تعتمد في عملها السياسي والتنظيمي على الأخلاق سرعان ما تنهار وتتلاشى.

ومن الجدير ذكره أنّ أحد أهمّ الذين كرّسوا الفصل بين السياسة والأخلاق هو الفيلسوف الألماني “نيتشه” الملقّب بفيلسوف القوّة إذ كان دائم التأكيد أنَّ السّياسة لا علاقة لها بالأخلاق مطلقًا، وكان دومًا يصف الحاكم المقيَّد بالأخلاق أنّه سياسيّ فاشل لا يستقرّ على عرشه ولا يدوم في حكمه. والأخلاق عنده هي سلاح الضّعفاء البائسين الذين لا يصلحون لقيادة دولة أو سياسة رعيّة.

وأهمّ واجبات الحاكم والقائد السّياسي من وجهة نظر ميكافيللي يمكن تلخيصها في ثلاث واجبات كلّها تقوم على ضرورة انتهاج الانتهازيّة في العمل السياسي وتحييد الأخلاق تحييدًا تامًا على النّحو الآتي:

الواجب الأوّل المتعلّق بالأخلاق: يجب على الحاكم والسياسيّ التخلص من الأخلاق والقيم لا سيما ذات البعد الدّيني كما يجب على الحاكم استعمال الدين بوصفه وسيلةً لكسب تأييد الجماهير، فهو يقول: “إنّ الدّين ضروريّ للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السّيطرة على النّاس” كما يدعو ميكافيللي الحاكم والسياسي إلى انتهاج سياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة فيقول: “على الحاكم أن يتظاهر بالرّحمة والوفاء والنّزاهة والتديّن، وإن كانت فيه حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهبًا للتخّلي عن كل هذه الصّفات والعمل بضدّها إذا اقتضى الأمر، والتحلّي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة”.

الواجب الثّاني المتعلّق بالسّياسة الدّاخلية: ينبغي أن يجمع الحاكم والسّياسيّ بين حبّ النّاس وخوفه منهم، وإن تعسر عليه الجمع بينهما، فعليه أن يختار أن يكون مخيفًا لا محبوبًا، وهو يقول في ذلك: “من الأفضل أن يخشاك النّاس على أن يحبّوك” كما يقول: “البشر غير شاكرين، وهم متقلّبون وكاذبون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروريّ للحاكم أن يتعلم ألّا يكون صالحًا معهم”.

الواجب الثّالث المتعلّق بالسّياسة الخارجية: الحاكم والسياسيّ الحقيقيّ هو الذي يعلم ما إذا كانت وعوده الدّوليّة والخارجيّة عبئًا عليه؛ وعليه عدم التردّد في التّخلّص منها عند الحاجة، واستعمال القوّة عند الضّرورة، فالقوّة والسلاح لا الأخلاق هي أهمّ صفات السياسيّ، وفي ذلك يقول: “أثبتت الأيّام أنّ الأنبياء المسلّحين احتلّوا وانتصروا، بينما فشلَ الأنبياء غير المسلّحين عن ذلك”.

لقد انتصرت الميكافيلّلية واستقرّت في الواقع العالمي اليوم، ولكن استقرارَ واقعٍ معيّن لا يعني أنّه الصواب، وسيطرة فكرةٍ لا يدلّ أنّها الحقّ، وانتصار ميكافيللي هو نموذج لانتصار الفكرة الباطلة في زمن علوّ الباطل، وما نراه من أخلاق تُرفَع لافتتها ويُرفَع الصّوت بها في عالم السّياسة لا تعدو في كثير منها أخلاقًا مزاجيّةً يتمّ استخدامها من الأنظمة والجهات السّياسيّة الغربيّة لغسيل السّمعة حينًا أو اتخاذها قفازات نظيفةً لتغطية الأيدي القذرة التي تمارس أرذل الأفعال غير الأخلاقيّة أحيانًا أخرى.

المصدر : الجزيرة مباشر