“مستشفى المحلة العام”.. ومزاعم الهجوم بكلب شرس.. ما القصة؟

“مواطن” من فقراء بلادنا، شاء حظه العاثر أن يرافق ابن شقيقته “الطفل”، مصابا بجرح قطعي إلى مستشفى المحلة العام (حكومي)، بمحافظة الغربية- مصر، التماسا لإسعاف الطفل، ومداواةً لجرحه النازف. كان الوقت مساءً، ولم يجد المواطن، طاقم قسم الطوارئ الطبي.. انتابه الغضب (هذا طبيعي)؛ فلجأ إلى البث المباشر من هاتفه، ناقلا خلو المستشفى على عروشها من القائمين بالخدمة الطبية، مستغيثا بالمسؤولين. في الفيديو يظهر جرو (كلب صغير)، يسير وراء المواطن، ولا يظهر له صوتا (الكلب). استيقظ الطاقم الطبي، وأمن المستشفى من سُباتهم، على الجلبة.. بدلا من الاعتذار عن الإهمال، احتشد الطاقم الطبي والعاملين على قلب رجل واحد، ضد المواطن، بالبلاغات والشكاوى، زعما بأنه تعدى عليهم، وهاجمهم بـ “كلب شرس”، وسبهم.

الصحافة ومزاعم إدارة المستشفى.. وتغييب الطرف الآخر

دور الصحافة في هذه الحالة تقصي حقيقة ما حدث، استعانةً بالشهود وأطرافها (إدارة المستشفى، والمواطن أو أهليته، على السواء)، ونقل الصورة كاملة دون تحيّز. المواقع الصحفية، بدلا من البحث عن الحقيقة، تابعت نشر “مزاعم” واردة إليها من المستشفى، وكأن محتوى هذه البيانات هو حقيقة مطلقة. المنشور في كل “المواقع” يكاد يكون نسخة طبق الأصل، ترديدا لادعاءات إدارة طاقم المستشفى (يحتمل الصدق، والكذب)، مع تعمد تغييب الطرف الآخر، الذي هو مواطن بسيط، “غلبان” من آحاد الناس، تحيزا من هذه المواقع، وخصاما منها للمهنية. النيابة العامة، قررت حبس المواطن أربعة أيام لحين سماع الشهود، بناء على بلاغات مدير المستشفى و40 آخرين من العاملين.. مع أنه يكفي البلاغ أن يكون ممهورا بتوقع المدير، مبصوما بخاتم النسر.. لكنه التجويد، في الكيد والمبالغة.  معلوم عن “كلاب الشوارع”، إذا أطعم شخص واحدا منها، ولو بكسرة خبز، فإن “الكلب”، كلما رأى هذا الشخص، سار وراءه ذهابا وإيابا.. وفاءً منه، وتلمُسا لطعام، وهذا هو الظاهر في الفيديو، فـ “الكلب” صغير، وأقل من يجرح أحدا، وهو سائر خلف المواطن في هدوء، كما أن من يحمل طفلا مصابا لإسعافه لن يكون مشغولا باصطحاب كلب “لو كان مملوكا له”.

“ضربني وبكى” المثل العابر للأزمنة.. وقضية مواطن المحلة

هذه الواقعة تستدعي إلى الذهن المثل الشعبي الشهير: “ضربني وبكى.. وسبقني واشتكى”، الذي استخلصه “حكيم مجهول” في سالف العصر والأوان، من الواقع والتجارب.. إذ كثيرا ما تؤكد وقائع وحوادث شتى، سريان هذا “المثل” سريانًا عابرا للأزمنة والعصور والقارات.. مثلما يبدو مُعبرا عن قضية “مواطن المحلة” مع مستشفاه العام. لو عُدنا آلاف السنين إلى الوراء، فقد أورد القرآن الكريم، قصة “النبي يوسف” الصديق، وفيها ما يؤكد صحة المثل الذي نتحدث عنه.. حين راودته عن نفسه، امرأة العزيز (عزيز مصر قد يكون الملك أو الوزير)، فلما أبى وامتنع عن ارتكاب الفاحشة معها، لم تتورع عن تقمص دور الضحية، شاكيةً، باكيةً أمام “العزيز”، متهمةً يوسف، بأنه تحرش بها، مُحرضةً إياه على سجنه وإيلامه تعذيبا. ومع أن شاهدا من أهلها، برهَنَ على “براءة يوسف”، من هذا الاتهام الكاذب، فإن هذه البراءة لم تمنع العزيز من إلقائه في السجن لسنوات طوال، ظلما وزورا وبهتانا، بهذه التهمة الشنيعة. المُستفاد من القصة أن “العزيز” وهو من أسلافنا المصريين القدامى، لفّق قضية آداب (تحرُش جنسي) لـ”نبي” من أنبياء الله، وزجّ به في السجن، وسامه العذاب ألوانا، دون ذنب جناه أو إثم، بُغية التستُر على خطيئة التحرُش التي ارتكبتها امرأته.

المواطن.. واحتشاد أقران الموظف ومرؤوسيه وترتيب الأوراق

حياتنا اليومية، تشهد تنويعات لمقولة الحكيم المجهول، ففي مدراسنا يضرب الطفل المُشاكس زميله، ثم يسبقه إلى مُعلم الفصل ودموعه تنساب، شاكيا، متصنعا دور (المضروب)، وقد يكرر الأمر نفسه مع أسرته، وربما تحدث مناوشات أو منازعات مع أُسرة الطفل المجني عليه، نتيجة لهذه السلوكيات، لهذا قيل: “يعملوها الصغار ويقعوا فيها الكُبار”. ونلمس من خبراتنا المهنية الصحفية، تكرارا للمعاني نفسها بأساليب أخرى، إذا تعلق الأمر بتضرر مواطن من تقصير أو إهمال أو تعسف موظف هنا أو مسؤول هناك.. إذ يحتشد أقران الموظف المشكو بحقه ومرؤوسيه بـ”تستيف أوراقهم”، أي ترتيبها واصطناع الأدلة والقرائن وشهادات الزور ضد “المواطن الشاكي”، ليكون جانيا، وليس مجنيا عليه. هذا الأسلوب مُمتد في جذوره إلى عشرات القرون السحيقة، فالبرديات المصرية تروى قصصا بهذا المعني لا يتسع لها المقام (الفلاح الفصيح نموذجا).

قاعدة قانونية ومهنية صحفية في النزاع بين طرفين

لعل كل ما أسلفناه، أسّس لـ”قاعدة قانونية” قديمة جدا، مفادها أن تبين “وجه الحق” في أي نزاع بين طرفين، يستوجب الاستماع لكليهما، وتمحيص أقوالهما وتحقيقها.. هذه القاعدة نفسها سارية على “النشاط الصحفي”، وحاكمةً له، فلا يجوز مهنيا، نقل اتهام لطرف دون إيراد دفاعه عن نفسه. المواطن المُتهم بالتعدي على مستشفى المحلة العام (حكومي)، بلا مال ولا جاه، وإلا لتغيرت وجهته إلى مستشفى خاص، حيث العناية والرعاية، مقابل المال، ولما كان قد وقع فريسة لاحتشاد طاقم المستشفى والعاملين فيه، وكأنهم “قبيلة” مُستنفرة للذود عن حُرماتها. مستشفيات وزارة الصحة، تعاني إهمالا، ونقصا في الإمكانيات، وغيابا للعلاج المجاني، إلا نادرا.. مما يوفر مناخا ملائما للمشاحنات بين أهالي المرضي، والأطقم العاملة بالمستشفيات. لافت هو غياب وزارة الصحة والحضور الباهت لمديرية الصحة التي يتبعها “المستشفى”، كأنها تبارك مسلك طاقمه في توظيف واستغلال الأوراق الرسمية والقوانين، ربما كيدا لمواطن عانى إهمالا في إسعاف ومداواة الطفل النازف دما، فلا سمعنا عن تحقيق إداري مُحايد للواقعة، وبيان بنتائج مثل هذا التحقيق المُفترض، وضعا للأمور في نصابها الصحيح.

المصدر : الجزيرة مباشر