الثانوية العامة المصرية.. وقصة “الغش الجماعي”

 

أعادت النتائج المتدنية وارتفاع نسب الرسوب لطلاب الفرق الأولى بكليات الطب البشري وطب الأسنان بجامعات سوهاج (للمرة الثانية على التوالي) وأسيوط وجنوب الوادي إلى الواجهة، قضية الغش الجماعي في امتحانات شهادة الثانوية العامة المصرية. فقد أفادت قيادات جامعية معنية، بأن هذا الرسوب الصادم للطلاب (80% بكلية طب أسنان قنا- جنوب الوادي) كاشف عن انخفاض مستواهم التعليمي، وأن تفوقهم -ومن ثم التحاقهم بدراسة الطب- ناجم عن عمليات غش جماعي في بعض “لجان الثانوية العامة” الواقعة داخل النطاق الجغرافي لهذه الكليات.

السادات وأثرياء الانفتاح.. والوساطات والتهريب وغش الأغذية

واقع الحال أن “ظاهرة الغش الجماعي” ليست وليدة هذه الأيام، بل يرجع ميلادها إلى سبعينيات القرن الماضي، تزامنا مع “سياسة الانفتاح” التي انتهجها الرئيس محمد أنور السادات (مولود عام 1918)، الذي حكم مصر نهاية عام 1970، حتى اغتياله يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1981. ذهب السادات إلى الانفتاح، بعد نصر أكتوبر عام 1973، وهو يردد مقولته الشهيرة بأن 99% من أوراق اللعبة بيد “أمريكا”، وراح يتقارب معها. قبلها وفي مايو/أيار 1971، كان قد ألقى رجال سلفه الرئيس جمال عبد الناصر (1918- 1970) في السجن، ثم ابتعد عن الاتحاد السوفيتي (تأسس عام 1922 وتفكك عام 1991 وورثته روسيا) الذي كان اشتراكيا، وداعما لمصر في عصر عبد الناصر. على طريق الانفتاح أطلق “السادات” العنان لـ”اقتصاد السوق” تشبّها بالأنظمة الرأسمالية الغربية، بديلا عن الانغلاق (على حد وصفه) والاشتراكية، بما تعنيه من سيطرة للدولة على أدوات الإنتاج، وحركة السوق، مع وعود بالرخاء الوفير. أدت سياسة الانفتاح “عمليا” وسريعا إلى ظهور طبقة “أثرياء الانفتاح” التي راكمت ثروات متباينة من ممارسة أنشطة طفيلية، على غرار السمسرة والعمولات والتهريب والفساد والسوق السوداء واستيراد الأغذية المغشوشة، وتسللت الوساطات إلى الكثير من المجالات، مع تراجع الإنتاج وتزايد النمط الاستهلاكي، وتلاشي الأمل في الرخاء.

الانتهازية وغياب التربية.. والمال سبيل الترقي الاجتماعي بديلا عن التعليم

لم نبتعد عن قضية “الغش الجماعي”، فقد وُلد من رحم التداعيات الاجتماعية لـ”سياسة الانفتاح” الساداتية، التي أسفرت عن انقلاب الهرم القيمي للمجتمع، إذ تراجعت قيم الإنتاج والعمل والاجتهاد والتعاون وإيثار الغير، مقابل إعلاء الفردية والانتهازية والمصالح الذاتية، والغاية تبرر الوسيلة، و”أنا مالي”، أو أنا ومن بعدي الطوفان. هذه القيم الرديئة التي استجدت وشاعت، انعكست على “التعليم” الذي كان هو السبيل إلى الترقي والصعود الاجتماعي، ومن ثم صار الكثيرون من الناشئة يهجرون التعليم ويتسربون، بحثا عن “المال” الذي صار هو المقياس والمعيار الأول للمكانة الاجتماعية، بغضّ النظر عن “وسيلة” الوصول إليه، وما إذا كانت مشروعة وأخلاقية من عدمه. هكذا، زحفت الدروس الخصوصية لتضرب نظامنا التعليمي، ومن بعدها التعليم الخاص بألوان وأشكال شتى (مدارس ثم معاهد وجامعات) هذا مع انخفاض الإنفاق على المؤسسة التعليمية، وتدهور أحوال المُعلمين المادية والأدبية، وتواري فكرة “التربية” من المدارس، وغيابها تماما.

المراقبون.. وحتمية تسهيل “الغش الجماعي”

في هذه الأجواء، تسللت ظاهرة “الغش”، سعيا ممن يملك مالا أو نفوذا أو وساطة، كي يوفر للأبناء فرصة الحصول على مجموع فائق، والالتحاق بكليات القمة (الطب والهندسة وغيرها) لتأهيل الأبناء لمهن مستقبلية تضمن لهم المكانة الاجتماعية والمال الكثير ورغد العيش. الطبيعي، إذا ما تم ترتيب أمر الغش في لجنة ما أو مدرسة (ثانوية أو غيرها) أن يكون غشا جماعيا، فمن الناحية العملية، يصعب على “الطاقم الإداري” لمثل هذه اللجنة (الرئيس والمراقبين والملاحظين) أن يختص الطالب “زيدًا أو عبيدًا” بعملية تسهيل الغش، دون الآخرين، وإلا فإن هذا الطاقم سيواجه بركانا من غضب الطلاب وأولياء أمورهم، احتجاجا على “التمييز”، وليس على الغش. هكذا، وُلدت ونمت وتوغلت ظاهرة الغش الجماعي، سواء في الشهادة الإعدادية أو الثانوية، وإن كانت الأولى أكثر انتشارا، دون ضجيج.. على عكس الثانوية العامة التي تكون محلا لاهتمام الرأي العام والإعلام والحكومة. وصار معلوما للكثيرين أن لجانا في “مناطق محددة” يجرى فيها تنظيم عمليات الغش الجماعي في امتحانات الثانوية العامة بسهولة ويُسر، ومن ثم يتوافد عليها الراغبون، للانتظام بمدارسها قبل الامتحان بعام أو أكثر أو أقل، قفزا فوق “اللوائح”، والوساطات مُتاحة لإزالة الموانع.

توافق اجتماعي وتعاون على الغش.. ينال من إجراءات المنع

الإنصاف يقتضي التنويه، بأن بعض لجان الصعيد لا تنفرد بهذه الظاهرة، فهناك بالوجه البحري لجان معروفة ولها شهرتها في هذا السياق، منذ سنوات طويلة. لقد عايشت (في منتصف السبعينيات) بمنطقة “وادي النطرون” (شمال العاصمة المصرية القاهرة) تنظيم عمليات الغش الجماعي، والتعاون عليه، حيث كان يتم تحصيل مبالغ من أولياء الأمور، وإعداد الوجبات الفاخرة لأعضاء لجنة المراقبة، مقابل تسهيل الغش، وأقطع بأن جذور قصة الغش الجماعي بدأت من هذه المنطقة، قبل انتقال العدوى إلى غيرها من المناطق في أنحاء متفرقة بالبلاد.

المشكلة ليست فقط في تفوّق مئات الطلاب وشغل أماكن بالكليات المرموقة دون استحقاق، بل الأخطر على المجتمع هي الممارسات الكارثية للغشاشين (لاحقا في وظائفهم) بما يستلزم من المؤسسات المعنية (التعليمية والثقافية ونقابات المعلمين ومجالس الآباء) الالتفات إلى معالجة هذه القضية.

نسأل الله السلامة لمصر.

المصدر : الجزيرة مباشر