قضية معلمات “بني سويف”.. والاشتباه في تعاطي المخدرات!

قرار عنيف، شديد الخطورة، له تبعاته الاجتماعية والتربوية والحياتية المؤذية؛ بإيقاف 23 مُعلما بينهم 16 امرأة، استنادا إلى تحليل مخدرات “مبدئي” لا تأكيدي، أُجري لهم، وجاءت نتيجته إيجابية، بتعاطيهم للمخدرات. الإيقاف عن العمل، مع صرف نصف الأجر فقط، يستمر ثلاثة أشهر، أو إلى حين صدور نتائج “تأكيدية” لتحليل “العينات”، فإن جاءت إيجابية مؤكدة للتعاطي، يتم إنهاء خدمة المعلم، أما إذا جاءت سلبية، فيعود إلى عمله.

القرار الكارثي أصدرته “مديرية تعليم محافظة بني سويف” (جنوب العاصمة المصرية القاهرة)، بعد إجراء تحليل مخدرات فُجائي للمعلمين الموقوفين.

سيف الاتهام على رقاب “المعلمين” وتدمير سمعتهم

المديرية التعليمية أصدرت بيانا تُؤكد فيه أن قرارها جاء تنفيذا للقانون رقم 73 لسنة 2021 (قانون فصل الموظف المتعاطي المخدرات)، الذي يشترط للتعيين في الوظائف أو الاستمرار فيها، أو الترقيات الوظيفية، خضوع العامل في كل مرة لتحليل طبي، للتثبت من عدم تعاطيه للمخدرات، وكذلك المثول للتحليل بشكل فجائي في أي وقت.

هناك فرق بين المتعاطي للمخدرات والمدمن عليها، فالأول يتناولها في أوقات متباعدة على سبيل الترفيه. أما المُدمن، فيتناولها بانتظام، اعتمادا جسديا ونفسيا وعقليا عليها.. والأخير مُصَنَّف دوليا على أنه “مريض” يتعين علاجه ورعايته للأخذ بيده وإنقاذه من علة الإدمان. عودة إلى “القرار”، فخطورته كامنة في تسليط سيف الاتهام بتعاطي المخدرات أو الإدمان عليها، على رقاب هؤلاء المعلمين طوال فترة الوقف، وهو كفيل بتدمير سمعتهم، بين طلابهم وذويهم ومجتمعهم، ولا سيما أننا بصدد مجتمع ريفي صعيدي محافظ. فحتى عندما يثبت عدم تعاطي المخدرات لأي منهم، فإن الاتهام سيظل لصيقا به.

المجتمع لا يرحم ولا يتسامح مع المرأة

إن “الخبر السيّئ أكثر انتشارا وأسرع تداولا”.. هذه قاعدة ثابتة الصحة؛ لذا فالإقبال مرتفع على صفحات الحوادث بالمواقع الإلكترونية، ومن قبلها الصحف الورقية. عندما يُتهم شخص ما بتعاطي المخدرات، أو القتل أو السرقة أو أي جريمة، فإن “الناس” يسارعون إلى تناقل الخبر وتداوله على صفحاتهم التواصلية، فإذا حصل المتهم على “البراءة” لاحقا، فإنها لا تحظى بنفس مقدار التداول والانتشار، بل أقل كثيرا. كما أن هناك مقولة شعبية أخرى، لا تخلو من الصدقية والواقعية، وهي أن “المجتمع ما بيرحمش”، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالمرأة، فلا يتسامح معها، ولا يستمع إليها أصلا. أما الرجل فيمكن تفهُّم مبرراته والتماس الأعذار له.

يؤكد هذا ما نشهده يوميا من حملات للتنمر والجلد بالكلمات والمعاني القاسية التي يمارسها رواد التواصل الاجتماعي، ضد كل من يرونه (خاصة، إذا كانت امرأة) واقعا في هفوة أو خطأ ولو صغيرا، وكأنهم أوصياء على المجتمع.

التشويه للمعلمات الموقوفات.. والطلاق للمتزوجات، وتشرد الأبناء

من هنا، فالقرار يجلب التشويه لصورة “المعلمات”، ويُسيء إليهن، ويُلحق بهن نفورا ونبذا اجتماعيًّا.. إذ قد يكون بينهن آنسات مقبلات على الزواج، فينصرف عنهن طالبو القرب والزواج، أو يذهب الخطيب دون عودة، عن خطيبته ما دامت هذه التهمة منسوبة إليها. كما أن المتزوجات منهن، قد يتم تطليقهن، حتى وإن لم تثبُت فعليا “تهمة التعاطي” عليهن، لكون التحليل مبدئيًّا وليس تأكيديًّا ولا نهائيًّا، والنتيجة تكون “خرابا” للبيوت العامرة، ويتشرد الأبناء.. هذا إذا أحسنت عائلة المعلمة الظن بها، وتفهمت الأمر، وانتظرت التحليل التأكيدي النهائي، دون الانتقام منها.

تكمن المشكلة أساسا، في “القانون”، فمديرية تعليم بني سويف، لم تتجاوز نصوصه، التي تفرض عقوبات صارمة على المسؤولين المُتغاضين عن إجراءات التحليل، والوقف عن العمل، والفصل من الخدمة لمن يؤكد التحليل تعاطيه للمخدرات. ذلك أن منطق صياغة القانون (73 لسنة 2021)، يفترض في العامل أو الموظف أنه مُدان بالإدمان أو تعاطي المخدرات (اشتباه بدون مبرر) إلى أن تثبت براءته، وهذا المنطق يخالف الدستور والشرائع الأرضية والسماوية التي تفترض أن “البراءة” هي الأصل في الإنسان. مفهوم، حرص القانون على عدم تعاطي العامل للمخدرات أو الإدمان عليها، لما لها من مخاطر تنال من سلامة العامل، وتأديته لواجباته الوظيفية. والتشدد جيد ومطلوب مع الأطقم الطبية، وسائقي القطارات وقائدي المركبات العامة، والخاصة، وعربات النقل، لارتباط هذه المهن وأمثالها بحياة الناس، وسلامتهم، غير أن الأمور لا تستقيم، هكذا تعميما على الكل.

“أدوية” بالمخدرات والشهادات الطبية الرسمية.. ولجوء المرضى للصيادلة

من غرائب هذا القانون، أن على الموظف أو العامل، عند “التحليل” الذي يتم فجائيا، أن يتقدم بوثائق رسمية ثبوتية بالأدوية التي يتعاطاها (شهادات من جهات حكومية)، وكأن على الموظف أن يكون حاملا لهذه الشهادات طوال الوقت. معلوم أن أدوية بعض الأمراض والمتاعب، بها نسب متفاوتة من المخدرات، مسموح بها طبيا، ومن ثم تظهر في التحاليل الأولية، مثل أدوية البرد وآلام المفاصل، والضغط، والحمل بالنسبة للنساء.

كما أن مرضى كُثرًا يلجؤون إلى الصيادلة مباشرة، تلمُسًا للدواء، وتجنّبًا للتكلفة المالية المرتفعة للكشف عند الطبيب. أفلا يكفي المريض معاناته، لتكون الأدوية سببا في إدانته ولو مؤقتا، وإيقافه عن العمل، لمجرد تحليل “مبدئي” غير مؤكد؟. لماذا لا يتم تأجيل الوقف عن العمل إلى ما بعد ظهور نتيجة إيجابية مؤكدة وقاطعة؟ أليست عقوبة الفصل من الخدمة شديدة القسوة على العامل، وعلى أسرته التي ستدفع ثمن فصل عائلها من الخدمة، وتواجه صعوبات حياتية كبيرة في هذه الحالة؟ لماذا لا يُعاقب العامل المُدان بالتعاطي، عقابا معقولا، ويُمنح فترة للتعافي من المخدرات، فإن عاد إليها، حقت عليه عقوبة الفصل من وظيفته.

الحكومة المصرية مدعوة إلى مراجعة هذا القانون، والتقدم إلى البرلمان بتعديلات تتلافى السلبيات المشار إليها، احترامًا لحياة العاملين بالدولة، وحمايتهم من التشويه والإدانة من دون ذنب أو جريرة.

المصدر : الجزيرة مباشر