هل يُعفى المقصّر من المسؤوليّة والعقاب لأنّ الكوارث الطّبيعيّة قضاءٌ وقدَر؟!

الإعصار دانيال ليبيا (الصحافة الفرنسية)

من المُسلّم به أنّ الزلازل والأعاصير والفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعيّة ما هي إلّا من خلق الله تعالى الذي قضاه بعلمه وقدّره بحكمته، وهو القائل جل في علاه في سورة القمر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

ولا يمكن لمخلوقٍ أن يقف في وجه قدر الله تعالى، ولا يملك المخلوق أمام تصرّف الخالق في مخلوقاته على هذا الشّكل إلّا أن يستشعر ضعفه وضآلته أمام قوّة الله تعالى، ويتجلبب بجلباب عبوديّته أمام تجليّات ألوهيّة القويّ الجبّار، فتراه يفرّ من قدَر الله إلى قدَر الله، ويفرّ من الله إليه ضارعًا وتائبًا ومنيبًا، ويوقن بأنّه لا ملجأ ولا منجى منه إلّا إليه جلّ في علاه، فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره، موقنًا بأنّ كلّ ما أصابه في الزلزال من فقدٍ أو هدمٍ أو جراحٍ أو موتٍ، وما أصابه في الإعصار من غرق وتهديم وتشريد، إنّما هو بقضاء الله وقدره، مستشعرًا كلام الصّادق المصدوق صلوات الله تعالى عليه وسلّم: “واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسرًا”.

ولكن عند حدوث هذه الكوارث من الزلازل والأعاصير يستغل البعض عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر ليتنصل من مسؤوليّته وتقصيره وإهماله، فهناك منازل تتهدّم على رؤوس أصحابها في الزّلزال لأنّها بنيت على قواعد غير سليمة أو كانت مخالفة لقوانين البناء وشروطه أو كان هناك غش فيها من المتعهدين بالبناء، وهناك سدود تنهار في الإعصار بسبب عدم صيانتها وعدم تشييدها على قواعد هندسيّة سليمة، فأين هذا التقصير والمسؤوليّة عنه من الإيمان بالقضاء والقدر؟!

القضاء والقدر يشمل كلّ شيء

من القضايا الرئيسة التي على المرء اعتقادها أنّ معنى القضاء والقدر يشمل كلّ ما خلقه الله تعالى من أحداث وأفعال، من غير سلب اختيار الإنسان، ولا تأثير في جدّه واجتهاده، فهو علم الله تعالى الأزليّ على وجه الكشف لا التأثير التّقييدي أو الإكراهيّ، وأنّ إرادة الله تعالى في الكون إرادةٌ مطلقةٌ لا تشوبها شائبة الإكراه من مخلوق على الإطلاق، فلا يجري في الكون شيءٌ إلّا بإرادة الله تعالى، ومن ذلك معاصينا وذنوبنا التي نقترفها ونرتكبها وطاعاتنا التي نفعلها، وإنجازاتنا المتفوقة وتقصيراتنا وإهمالنا أو تعدينا؛ فكلّ ذلك يتمّ بإرادة الله تعالى، لكن كونه يتمّ بإرادة الله تعالى لا يعني على الإطلاق أنّه يتمّ بإجباره أو إكراهه لنا على الفعل.

وهذا يدلّ عليه ويؤكده ما أخرجه مسلم في صحيحه عن طاووسٍ اليماني من أنَّه قال: أدركتُ ناسًا من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولون: كلُّ شيءٍ بقدرٍ؛ قال طاووسٌ: وسمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “كلُّ شيءٍ بقدَرٍ, حتَّى العجْزُ والكيْسُ، أو الكيْسُ والعجْزُ”.

وفي هذا المعنى يقول الإمام النووي في شرحه صحيح مسلم ناقلًا عن القاضي عياض ومتابعًا له: “العجز هنا يحتمل أن يكون على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتّسويف فيه، وتأخيره عن وقته. قيل: ويحتمل أن يريد بذلك عمل الطاعة، ويحتمل أن يريد عموم أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور ظاهرة. وإدخال مالك وأهل الصحيح له في كتاب القدر دليل على أن المراد بالقدر هاهنا ما قدره تعالى، وأراده من خلقه، ومعناه أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه”.

القضاء والقدر لا يعفي من المسؤوليّة

ومن القواعد المهمّة التي ينبغي للمؤمن استصحابها في حياته أنّ الإيمان بالقضاء والقدر لا يعفي المقصر أو المهمل أو المتعدّي من مسؤوليّته، فالبيوت التي تهدّمت على رؤوس أصحابها في الزّلزال إنّما تهدّمت بقضاء الله تعالى ولكن هذا لا ينفي وجوب فتح تحقيق في الأسباب التي أدت إلى تهدم الأبنية فإن كان للغشّ فيها أو المخالفة في تراخيصها سبب في تهدمها أو يدٌ في انهيارها فالمسؤول عن ذلك يعدّ جانيًا وتجب محاسبته ومعاقبته ولا يعفى من هذه المسؤوليّة تحت ستار القضاء والقدر.

والسدود التي تهدمت بسبب الإعصار وجرفت أحياء بكاملها وتسببت في غرق الناس وموتهم إنما تهدمت بقضاء الله وقدره، ولكن هذا لا يعني عدم التحقيق في أسباب تهدمها بل إنّ ذلك واجب شرعيّ، وإن تبيّن أن تهدّمها كان بسبب إهمال أو تقصير في صيانتها أو أن بناءها كان على غير القواعد السليمة فإن المهمل والمتعدي والمقصر مجرمٌ يجب أن يحاسب على جريمته، ولا يجوز أن يفلت من العقاب متسترًا بأنّ ما جرى هو قضاء الله تعالى وقدره.

وقد أخرج أحمد وأبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي “أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلينِ فقال المقضِيّ عليه لما أدبرَ حسبي الله ونعمَ الوكيلُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلومُ على العجزِ، ولكن عليكَ بالكيسِ، فإذا غلبكَ أمر فقُل: حسبي اللهُ ونعمَ الوكيلُ”.

وقد قال شهاب الدين التُّورِبِشْتِي معلقًا على هذا الحديث في “الميسر في شرح مصابيح السنة”: “العجز: أصله التّأخر عن الشّيء وحصوله عند عجز الأمر، وصار في التعارف اسمًا للقصور عن فعل الشّيء، وأريد به هاهنا التّأخر عن الأمر بترك التّدبير، والتقاعس عن مظان الطلب”، فالعاجز المقصر ملومٌ من الله تعالى ومحاسب على عجزه وتقصيره ولا يفيده التذرّع بالقول حسبي الله ونعم الوكيل للتغطية على عجزه وتقصيره.

لذلك علينا أن نعلم ونعلن بكلّ وضوح أنّ تهدّم المنازل بسبب الزلزال قضاءٌ وقدر لكنّ المقصر والمهمل والغاشّ فيها مجرمٌ تجب محاسبته ولو تهدمت بفعل الزلزال، وتهدم السدود بسبب الإعصار قضاء وقدر لكن المهمل في صيانتها والمقصر في متابعة ذلك والغاشّ في تشييدها مجرمون تجب محاسبتهم ومعاقبتهم؛ فمبدأ القضاء والقدر لا يعفي المقصر والمهمل والمتعدي من مسؤوليتهم، وهو ليس غطاءً يفرّ المجرمون تحت ستاره من مسؤولياتهم.

المصدر : الجزيرة مباشر