محمد صلاح.. في مديح البقاء!

محمد صلاح

لم يمسك بصولجان أبدًا، ولم يرتد التيجان، وليس له وزراء، ولا حاجب، ولا رئيس ديوان، لكنهم يلقبونه بالملك.

لا يمشي على السجاد الأحمر كدبلوماسي مرموق، بل يركض في الساحات الخضراء بأقصى سرعة، ومع ذلك فهو سفير فوق العادة لأبناء جلدته. لديه حاشية ضخمة تُقدَّر بعشرات الآلاف في المدرجات، وغيرهم عشرات وربما مئات الملايين أمام شاشات التلفاز، لكنهم يغنون له “لا تمض وحدك”.

جمهوره الأكبر من البسطاء، لكنه يتقاضى راتبًا أسبوعيًّا، يُسيل لعاب، وربما حسد بعضهم، لأنهم لا يستطيعون إحصاءه بعملاتهم المحلية المتهاوية. لديه ثروة تضعه في مصاف أغنياء أرض النيل، لكنه لا يتباهى بما أُوتي، ولا يتمسح في طبقة لم ينتم إليها أبدًا.

أقدامه في الجزر البريطانية لكن أياديه ممتدة بالعطاء في قريته، القابعة في دلتا النيل شمالي مصر، فيفتح بيوتًا، ويكفل أيتامًا، ويجهز العرائس المعوزات، وينفق ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، عن طريق مؤسسة خيرية يديرها والده وشقيقه.

رسام دون ريشة

ليس خبيرًا في الإعلام ولا مختصًا ببحوث الصورة الذهنية، لكنه فعلها بذكاء فطري، ورسم دون ريشة مشهدًا مغايرًا عن الرجل العربي في أوروبا، الذي تنقسم صورته بين الفقير الذي تسلل مهاجرًا، وأصبح يعيش على هوامش المدن والمجتمعات، حياة عشوائية مرتبكة، تجعله مع أسرته، قنابل شغبٍ محتملةٍ متاحةٍ للانفجار في أي وقت، وبين الثري الذي يذهب إلى القارة العجوز باحثًا عن الصغيرات، ليبعثر أوراقه المالية، وراءهن، لاهيًا في حي “سوهو” بالعاصمة البريطانية “لندن” أو حي “بيجال” في العاصمة الفرنسية “باريس”، أو مراتع الجنس والخمور، وصالات المقامرين في أي بلد غربي.

هذا العربي الاستثنائي لا يرتدي عمامة، ولا يحفظ القرآن، لكنه يؤثر في معاقل الغرب المسيحي، كداعية رصين يدافع بهدوء وروية عن سماحة الإسلام.

ليس له برنامج أسبوعي يرتدي فيه مسوح الوعاظ ليتحدث عن الفضائل، ومع ذلك فأخلاقه الرفيعة التي لا تقل عن موهبته، تجعله في مصاف القديسين، في الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس.

ليس إمامًا، ولا خطيبًا مفوهًا، لكنه عندما يسجد فرحًا عقب كل هدف يحرزه، يُفصح عن صلته الواضحة بالسماء، وارتباطه بعطاياها الكريمة، وتذكره، وامتنانه ليد الله التي ترعاه، فيرسل حمده وشكره تبجيلًا آنيًّا في لحظة الفرح، دونما تأخيرٍ أو انتظارٍ لـ”الكتاب الموقوت”.

يتسلل بين المدافعين في فرق الخصوم، وهو يلعب كرة القدم، ليحرز الأهداف، وإلى أنحاء القلوب بابتسامة هادئة، ليسجل فيها، حضورًا طاغيًا، من البهجة والمحبة وانتشاء الحُلم.

قصة ملهمة

قصة نجاح محمد صلاح لاعب نادي ليفربول الإنجليزي موحيةٌ حقًّا، فمن الحياة في قرية مصرية على أطراف محافظة الغربية شمالي مصر، إلى الحياة في مدينة مانشستر الواقعة شمال غربي إنجلترا التي كانت معقلًا كبيرًا انطلقت منها الثورة الصناعية في أوروبا الغربية كلها.

ومن الأبواب الموصدة، وانكسار الحلم في نادٍ مصري كبير إلى عقود في أكبر الأندية الأوربية، ومن حقيبة متواضعة يحمل فيها زيه البسيط، وأشياءه الأكثر بساطة، إلى جبال من الطموح يحملها على عاتقه، ومن وراءه عشاق كثيرون.

في مدينة الضباب “لندن” التي حل بها لاعبًا في فريق “تشيلسي” بدت رؤيته واضحة، وأهدافه جلية، وسماؤه صافية دون غيوم، لكن بعض الكدر لم يعق سحائب موهبته التي تجمعت، وتكاثرت مع اجتهاداته، وتساقطت زخات نجاحه رويدًا رويدا، لتروي العشب الأخضر في انجلترا مهد كرة القدم، فتنبت أحلامه من غرس أصيل في أرض وبلاد غريبة.

أصبح هذا الفتى الثلاثيني، هو استقلالنا من البلاد التي احتلتنا، وانتصارنا على البلاد التي هزمتنا، وثروتنا لدى البلاد التي نهبتنا، وغنانا في البلاد التي أفقرتنا، وفخرنا أمام البلاد التي هجتنا وقزمتنا، بالجهل والتخلف.

أضحى محمد صلاح ظاهرة وطنية، وقومية، وفخرًا حقيقيًّا للعرب تمثل عزنا في البلاد التي أرادت ذلنا، وجبرنا في البلاد التي رامت كسرنا، وغوثنا في البلاد التي تباهت بخذلاننا، وشرفنا في البلاد التي تسابقت لتنديسنا.

كان طبيعيًّا أن يبحث الدوري الأغلى عربيًّا عن اللاعب الأكثر تميّزًا في أنحاء الوطن العربي الكبير، وعندما قدَّم نادي “اتحاد جدة” عرضًا مغريًا للنجم المصري للعب في الدوري السعودي وصل إلى نحو 650 مليون دولار خلال 4 سنوات، تداول مجتمع الـ”سوشيال ميديا” موجات تراوحت بين الرفض، والرفض الشديد، بينما رأى البعض أن اللاعب الأشهر في العالم العربي من حقه أن يختار مستقبله.

عبَّر الكثيرون بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي عن رأيهم في ما وُصف بالصفقة الأغلى في تاريخ عالم كرة القدم، التي تزايدت قيمتها مع كل رفض يعلنه “يورجين كلوب” المدير الفني الألماني لفريق “ليفربول” الذي وقف بصرامة ضد الصفقة من أجل مصلحة فريقه الذي يُمثل فيه صلاح رقمًا يصعب تعويضه.

الفتى الأشعث

بات هذا الفتى الأشعث صاحب الحلم الوسيم يختزل أمانينا، ويرسلها بعيدًا لأعلى في الفضاء، وهو يلوّح للجماهير مرتديًا حذاءً وقميصًا وسروالًا رياضيًّا، ملك بها قلوب البسطاء، ليثبت أنه بقي لديه وربما لدينا “أشياء لا تُشترى”.

المصدر : الجزيرة مباشر