هل عاد أردوغان خالي الوفاض من سوتشي؟!

أردوغان وبوتين

ثلاث ساعات كاملة جمعت الرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي الروسية المطلة على البحر الأسود بعد توقّف اللقاءات المباشرة بينهما منذ قرابة عشرة أشهر. الهدف المعلن للقاء كان بحث عودة العمل باتفاقية إسطنبول لتصدير الحبوب التي تم توقيعها في 2022 بعد جهود مضنية من جانب تركيا والأمم المتحدة، والتي قررت روسيا في يوليو/تموز الماضي الانسحاب منها، متهمة الغرب بعرقلة صادراتها من الأسمدة والمواد الغذائية في مخالفة صريحة لما سبق أن تم الاتفاق عليه.

قبل انعقاد اللقاء بساعات قامت طائرات مسيرة روسية باستهداف البنية التحتية لأحد أهم موانئ تصدير الحبوب الأوكرانية جنوب غرب أوديسا في محيط مدينة إسماعيل، على نهر الدانوب قرب الحدود الأوكرانية مع رومانيا، محدثة إضرارا بالغة في مستودعات ومقرات إنتاج وآليات زراعية وتجهيزات شركات صناعية في عدة قرى بالمنطقة.

التصرف الروسي في هذا التوقيت جاء بمثابة رسالة قوية وواضحة المعالم وجهها بوتين، ليس إلى تركيا وحدها، بل إلى الغرب أيضا، الذي يقف إلى جوار أوكرانيا ويدعمها عسكريا ولوجستيا بلا حدود، حتى يدرك الجميع أن أوراق اللعبة قد اختلفت، وأن روسيا لن توقع شيكات على بياض مرة أخرى حتى وإن كان ذلك لحليف مثل تركيا.

بوتين استبق لقاءه بأردوغان بجملة من الشروط، تمحورت حول إزالة جميع المعوقات التي تعوق عمل المصارف الروسية والمؤسسات المالية المحلية المشاركة في سلسلة توريدات الأسمدة والأغذية، بما في ذلك العودة إلى العمل ضمن إطار منظومة “سويفت” للمعاملات المالية الدولية.

هذا إلى جانب مطالبته بإعفاء الواردات الروسية من الحبوب والأسمدة من العقوبات الدولية المفروضة على بلاده، وإتاحة حرية الحركة أمام عمليات تصدير الأسمدة وتأمين كافة السفن والصادرات الروسية بما في ذلك العمليات اللوجستية المتعلقة بهذا الأمر، إذا كانت هناك رغبة حقيقية لإحياء العمل باتفاقية تصدير الحبوب.

مقترحات تركية لحل الأزمة

الرئيس التركي حمل معه عدة مقترحات تلبي الشروط الروسية، وتصب في صالح العودة إلى تطبيق اتفاقية إسطنبول، وذلك بعد مشاورات مكثفة مع بعض الدول الأوربية، والأمين العام للأمم المتحدة، من أهمها:

– إعادة مصرف أغروبانك الروسي مبدئيا إلى نظام سويفت الدولي لتيسير عملية تحصيل قيمة الصادرات الروسية من الحبوب والأسمدة.

– رفع الحجز المفروض على أموال كبار منتجي المواد الغذائية الروسية التي يتم تصديرها إلى دول العالم، وبدء مفاوضات دولية للإفراج عن الأموال الروسية المحتجزة لدى البنوك الغربية.

– تيسير عملية تصدير مادة الأمونيا التي تدخل في صناعة الأسمدة الكيميائية وإصلاح خطوط النقل التي تضررت نتيجة الحرب.

– التأكيد على ضرورة العمل سريعا من أجل إيصال الحبوب إلى الدول الفقيرة من خلال الدعم المالي الذي تقدمه قطر، على أن يتم طحنها وتعبئتها في تركيا، ثم إيصالها إلى الدول الأكثر احتياجا إليها درءًا لخطر المجاعة الذي يهدد شعوبها.

– قيام الأمم المتحدة بتأمين السفن والصادرات الروسية مع إمكانية الحصول على تعهدات دولية تضمن هذه المسألة.

بوتين يؤسس لمرحلة جديدة في علاقاته بتركيا

ظن كثيرون أن ما حمله أردوغان من مقترحات سيجعل بوتين يوافق على عودة العمل باتفاقية تصدير الحبوب، ليعود أردوغان منتصرا كما حدث من قبل، لكن بوتين رغم أنه أبدى انفتاحه على ما قُدّم له من مقترحات، لم يتخذ القرار السريع الذي كان الجميع ينتظره.

بل إنه في المؤتمر الصحفي المشترك بدا وكأنه يوجه عتابا مبطنا إلى نظيره التركي، بسبب القرارات التي اتخذها مؤخرا وجاءت في مجملها ضد المصالح الروسية، سواء ما يرتبط منها بحلف الناتو أو ما يخص الحرب الروسية الأوكرانية.

فقد أسهب بوتين في الحديث عن حجم التعاون الروسي التركي، مسلطا الضوء على المكاسب التي جنتها تركيا من وراء صداقتها مع بلاده، وكأنه يشير إلى أن روسيا أكثر إفادة لتركيا من الغرب، الذي لا تزال تسعى للحفاظ على علاقتها به وخطب وده، منوها إلى محاولات الهجوم المتواصلة على خط الأنابيب الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، المعروف باسم “السيل التركي”، مؤكدا انطلاق هذه الهجمات من الموانئ الأوكرانية بإيعاز من الغرب، في حين تعمل القوات الروسية على حماية هذا الخط.

 

المصالح الخاصة أهم من المصالح المشتركة

ورغم أن ملفات خلافية كثيرة بين روسيا وتركيا قد تكون سببا في توسيع نطاق خلافاتهما على المدى البعيد، كالملف الليبي والسوري وإقليم قرة باغ بأذربيجان، فإنهما تدركان حاجة كل منهما إلى الأخرى في ملفات وقضايا أكثر إلحاحا وعمقا الآن، لذا تجاهدان من أجل الحفاظ على مستوى علاقاتهما، والعمل على إزالة أي عقبات تعرقل مصالحهما المشتركة دون التضحية بمصالحهما الخاصة.

فليس هناك مشكلة إذًا في توجيه العتب أحيانا أو الإقدام على فعل ينتقص من مكانة الطرف الآخر، مثلما سمحت موسكو للاعبين آخرين كالصين والبرازيل والهند وبعض دول الخليج وإفريقيا بالتدخل كوسطاء لحل النزاع مع أوكرانيا، وموافقتها على عقد لقاء بهذا الخصوص في جدة ساحبة البساط من تحت أقدام أنقرة، التي طالما تفاخرت بقدرتها على جمع الخصمين، وذلك ردًّا على مواقف الأخيرة التي سببت غضبا شديدا في موسكو، وهو ما نوه به بوتين في كلمته، في إشارة إلى أن هناك من يمكنه أن يحل محل تركيا في هذا الملف.

مصالح تستدعي غض الطرف عن الخلافات

روسيا تدرك جيدا أن تركيا لا تزال هي الطرف الوحيد الذي لديه علاقات جيدة مع أوكرانيا والغرب عموما، تسمح له بلعب دور الوسيط الفاعل في كافة الأمور المرتبطة بالحرب الأوكرانية. صحيح أنها لا تملك أوراق ضغط يمكن استخدامها لكبح جماح كييف، ودفعها دفعا إلى الرضوخ للمطالب الروسية، وتحقيق النتائج التي تسعى إليها موسكو من وراء هذه الحرب، لكن هناك بعض الإيجابيات والأهداف التي تم إحرازها من خلال دورها في الوساطة بين الطرفين المتحاربين، إلى جانب دورها في الحد من تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا تريد موسكو أن تخسره.

كما أن تركيا تعد نافذتها الوحيدة لتصدير منتجاتها من الطاقة والغذاء، لذا سعت من أجل تحويلها إلى مركز عالمي للغاز حتى تضمن استمرار تدفق منتجاتها من الطاقة إلى دول العالم وجني مليارات الدولارات التي يحتاج إليها الاقتصاد الروسي بعد انخفاض قيمة الروبل.

وعلى الجانب الآخر لا تنكر تركيا أنها حققت الكثير من المكاسب، ونجحت في تخطي العديد من الأزمات بفضل علاقتها مع روسيا، خصوصا مع استمرار أزمتها الاقتصادية، وسعيها للخروج من نفقها المظلم، في ظل نفاد صبر مواطنيها وعدم قدرتهم على التحمل أكثر، وفي هذا الإطار تبدو روسيا هي أكثر الشركاء إفادة لها.

فقد ارتفع حجم الواردات الروسية من الصادرات التركية خلال عام واحد من 1.9% إلى 5%، إلى جانب مليارات الدولارات التي تجنيها من وراء إعادة بيعها للبضائع الغربية إلى روسيا، وزيادة عدد السائحين الروس في تركيا، كما سمح بوتين بخفض حجم ديون بلاده على تركيا، بل وتأجيل سداد الدفعات المستحقة لها مقابل ما حصلت عليه من غاز، وهو ما خفف كثيرا من حدة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، كما أن تشغيل محطة آق يو للطاقة النووية من شأنه أن يلبي احتياجات تركيا من الطاقة، الأمر الذي يخفض كثيرا من وارداتها وينعكس إيجابيا على الميزان التجاري لديها.

فهل تمضي علاقة البلدين قدما وفق مبدأ المكسب والخسارة الذي يتبعانه حاليا أم أن التطورات العالمية والإقليمية ستكون لها وجهة نظر أخرى؟!

المصدر : الجزيرة مباشر