الإدارة السياسية لمعركة الطوفان

كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس (رويترز)

 

السياسة هي الوجه الآخر للحرب، والعكس صحيح أيضًا، لا توجد معركة عسكرية كبرى بدون عمل سياسي مصاحب أو لاحق لترجمة النتائج العسكرية إلى ثمار سياسية، طوفان الأقصى لا يختلف عن غيره من المعارك الكبرى، فبالإضافة إلى العمليات العسكرية المتواصلة على الأرض هناك عمل سياسي، ونشاط إعلامي، وآخر إغاثي إلخ مصاحب ومكمل له.

الأداء السياسي للمقاومة الفلسطينية يتناغم تمامًا مع الأداء العسكري، ويترجم الانتصارات الميدانية إلى مكاسب سياسية لصالح القضية الفلسطينية، تحوّل المكتب السياسي لحركة حماس إلى كتيبة دبلوماسية وسياسية وإعلامية رشيقة الحركة منذ اللحظات الأولى لبدء عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل إن قرار الطوفان نفسه هو قرار سياسي بالأساس، وإن ترك تحديد الموعد ونوعية العمليات الميدانية للجناح العسكري “كتائب القسام”.

لم تتوقف الاتصالات واللقاءات السياسية المباشرة مع الوسطاء السياسيين ودول الجوار الفلسطيني، والتفاعل مع كل الأطروحات والمبادرات الإقليمية والدولية، وتقديم الصورة الصحيحة للعالم عما جرى لمواجهة الدعاية الإسرائيلية الكاذبة، والتحرك لحشد الدعم الدولي لمواجهة العدوان، وتقديم الدعم الممكن للتحركات القانونية في محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية.

وثيقة الطوفان

في سياق العمل السياسي أيضًا، أصدرت حماس يوم الأحد الماضي 21 يناير/كانون الثاني 2024 وثيقة سياسية جديدة بعنوان “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟” ضمنتها روايتها لأسباب اندلاع عملية الطوفان يوم 7 أكتوبر، بوصفها خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة المخططات الإسرائيلية التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، وتحرير الأسرى، وبالمحصلة التخلص من الاحتلال واستعادة الحقوق وعلى رأسها حق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

كما حرصت الوثيقة على تقديم حماس بأنها حركة تحرر وطني، أي أنها ليست حركة إرهابية كما تصنفها بعض العواصم الغربية، وأنها تستخدم الحق المشروع في مقاومة الاحتلال بما في ذلك المقاومة المسلحة وفقًا للمواثيق الدولية وليس فقط وفقًا لقناعات دينية.

كان لافتًا أن الحركة مدركة لحساسية قضية أسر المدنيين الإسرائيليين بالنسبة للمجتمع الدولي، ومن هنا حرصت على التأكيد أنها لم تكن تستهدف ذلك بل هي ترفضه انطلاقًا من قناعاتها الدينية الراسخة، وأنها كانت حريصة منذ اللحظات الأولى لعلمها بقيام بعض أهل القطاع بأسر بعض النساء والأطفال على إطلاق سراحهم بعد تجميعهم وتأمينهم، مع استعدادها لقبول تحقيق دولي محايد، وقد فسر البعض هذا الموقف بأنه اعتذار مبطن عن أمر لم يكن مقصودا، وهو خطاب يدحض الخطاب الإسرائيلي الكاذب الذي سمم عقول الكثيرين في الغرب.

تطور الخطاب السياسي

لم تقتصر الوثيقة على وضع الطوفان في سياقه النضالي التحرري المشروع دفاعًا عن النفس والأرض والمقدسات، ولكنها قدّمت رؤيتها أيضًا للوضع النهائي بدعوة المجتمع الدولي لإجبار الكيان على وقف عدوانه فورًا، والانسحاب من غزة، ورفض أي مشروعات إسرائيلية أو دولية لتحديد مستقبل القطاع، مع تأكيد أن ذلك حق حصري للشعب الفلسطيني لتقرير مستقبله وترتيب بيته الداخلي دون وصاية من أحد، وكذلك رفض مشروعات ومحاولات التهجير إلى سيناء والأردن، وهي رسالة إيجابية إلى الدولتين الجارتين اللتين تخشيان تلك المشروعات.

وثيقة الطوفان، بالإضافة إلى تقديمها رواية حماس للعمليات الأخيرة، فإنها تمثل تطورًا في الخطاب السياسي للحركة، وقد سبقتها الوثيقة السياسية المعدلة في 2017 التي أكدت ثوابت الحركة، لكنها تضمنت إقرار الحركة بحدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 بأن ذلك الحد الأدنى للتوافق الوطني الفلسطيني، مع استمرار رفضها الاعتراف بدولة الكيان.

هذا التطور في الخطاب السياسي لحماس أكسبها أنصارًا حتى من بين اليهود الرافضين للمشروع الصهيوني، الذين كانت لهم مشاركات لافتة في المظاهرات الرافضة للعدوان على غزة في الولايات المتحدة والعديد من دول الغرب، كما استند إلى هذه الوثائق ناشطون بريطانيين في تدشين عريضة لجمع توقيعات بهدف حذف حماس من قوائم الإرهاب البريطانية.

المقاومة الفلسطينية لا تختلف عن غيرها من قوى التحرر الوطني العالمية في التحرك بساقين (الساق العسكرية والساق السياسية)، فحركة التحرر في جنوب إفريقيا كانت تعمل بهذين الساقين، ومثلها حركة التحرر في أيرلندا (الجيش الجمهوري والشين فين)، وفي الجزائر (جبهة التحرير وجيش التحرير) وفي كل الحالات كانت الأجنحة السياسية هي الموجهة للعمليات العسكرية، والقادرة على توفير السلاح لها، كما كانت هي المخولة بالتفاوض السياسي، وهي التي اضطر الخصوم إلى الجلوس والتفاهم معها لتحقيق أحلام شعوبها في التحرر من الاستعمار.

الممثل الحقيقي للقضية

بعد معركة طوفان الأقصى، أصبحت فصائل المقاومة وفي القلب منها حماس هي الممثل الحقيقي للنضال الفلسطيني، مع عدم تجاهل الأدوار السابقة لفصائل فلسطينية أخرى وخاصة “فتح” قلب منظمة التحرير، لكن المنظمة بكل مكوناتها شاخت، وقبلت مسار أوسلو، وحذفت من ميثاقها المقاومة المسلحة، مكتفية بالنضال السياسي المنزوع الشوك، وهو ما لم يحقق للقضية الفلسطينية الحد الأدنى.

وقد تصاعدت شعبية المقاومة بعد طوفان الأقصى، وفقًا لاستطلاع رأي بين الفلسطينيين أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بالتعاون مع مؤسسة “كونراد أديناور” في رام الله، ونُشرت نتائجه يوم 13 ديسمبر كانون/الأول الماضي، وأظهر أن 72% من الفلسطينيين يؤيدون طوفان الأقصى، وأن 60% يرون أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”، كما طالب 70% بحل السلطة الفلسطينية، ورأى 90% أن الرئيس عباس يجب أن يستقيل، ورفض 64% مشاركة السلطة الفلسطينية في لقاءات مع الولايات المتحدة ودول عربية أخرى لبحث مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، وفضّل 60% بقاء حكم حماس في قطاع غزة بعد الحرب، كما ارتفعت نسب دعم حماس في الضفة الغربية 3 أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب”، وهذه النتائج تؤكد أحقية المقاومة وفي القلب منها حماس بتمثيل القضية الفلسطينية سياسيًّا، محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.

المصدر : الجزيرة مباشر