الطريق نحو البيت الأبيض (1): الأساطير الأمريكية

العلم الأمريكي أمام مبنى الكابيتول في واشنطن (الأناضول)

تشهد الولايات المتحدة الأمريكية هذا العام، 2024، انتخابات رئاسية وبرلمانية لاختيار من سيحكم البيت الأبيض في السنوات الأربع القادمة، وكيف سيتشكل الكونغرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ، في ظل تحولات إقليمية ودولية، تؤثر وتتأثر بما يدور في الداخل الأمريكي، لأهمية ومركزية الدور الذي تمثله الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي الراهن.

وأمام ما تمثله هذه الانتخابات تأتي هذه السلسلة من المقالات، للوقوف على نشأة وتطور النظام السياسي الأمريكي وكيف تتم العملية الانتخابية في الولايات المتحدة، وبيان أهم القضايا الداخلية والخارجية التي تشغل الناخب الأمريكي، وكيف سيكون شكل المواجهة بين مرشح الحزب الديمقراطي، الرئيس الحالي جو بايدن، والمرشح المحتمل عن الحزب الجمهوري، الرئيس السابق، دونالد ترامب.

أسطورة الاستثنائية الأمريكية

من أساطير تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية أسطورة “الاستثنائية الأمريكية”؛ تلك الأسطورة التي تقوم على أن الولايات المتحدة دولة فريدة، دولة استثنائية، دولة تحميها المحيطات، وللأمريكيين حياة وطنية خاصة ومميزة، معزولة عن أوروبا وآسيا ومتربعة على عرش النصف الغربي للكرة الأرضية، وقد أمن لها ذلك تفوقًا اقتصاديًّا دون أن تسعى إلى تحقيقه، وغذى نزعة انعزالية وإيمانًا بقدرتها على التحرك بحرية، وافتخارا بقيم ومبادئ تجعل الأمريكيين مؤمنين بأنهم دوما على حق.

وترتبط هذه الأسطورة بكيفية اكتشاف أمريكا، حيث لم يكن هذا الاكتشاف عملية واحدة، أو من خطوة واحدة، فهناك آثار تقول إن الآسيويين هم أول من اكتشفوا أمريكا عبر مضيق “بيرنج”، وذلك فيما بين 25 و40 ألفا قبل الميلاد، وكان الاكتشاف الثاني حوالي عام 1002م على يد الجغرافي النرويجي “ليف أريكسون” إلا أنه لم يكن يعلم أنه قد وصل إلى قارة جديدة.

وجاء الاكتشاف الثالث على يد “كريستوفر كولمبس” بين 1492 و1504م، حيث قام -هو وعدد من المكتشفين الأوربيين- بنحو 85 رحلة خلال هذه الفترة إلى شرق العالم الجديد، ثم تعددت الرحلات الأوربية، حتى تم اكتشاف الإطار الجغرافي العام لأمريكا في 125 عامًا من 1492 حتى عام 1617م.

من اكتشاف الإطار إلى بناء الوحدة

إن بناء أمة جديدة على الأرض الجديدة، كان عملًا ضخمًا وقاسيًّا، وأحيانا مخيفًا ومدمرًا، وتطلب الكثير من الجهد والمشقة والدماء أيضا، واستمر نحو 158 عامًا، حتى 1775م، حيث أخذ يبرز مجتمع أمريكي جديد يتميز بصفاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة، التي أخذت تتميز شيئًا فشيئًا عن الأوروبيين الوافدين الذين شكلوا أساس بناء هذا المجتمع.

وجاء عام 1776 ليعلن الانتقال إلى أهم مرحلة من مراحل التاريخ الأمريكي في العصر الحديث، حيث تمت الوحدة بين 13 ولاية وتم الإعلان رسميًّا عن قيام “الولايات المتحدة الأمريكية” دولة مستقلة، وتم اختيار “جورج واشنطن” مندوب ولاية فرجينيا وقائد جيوش الاستقلال، رئيسًا للاتحاد الجديد، وانتظرت الولايات المتحدة 183 عامًا أخرى ليكتمل عقدها، في عام 1959 بانضمام ولايتي “ألاسكا” و”جزر هاواي” إلى الاتحاد الأمريكي، الذي أصبح يضم 50 ولاية.

أسطورة الاستيطان وأمة المهاجرين

تُعرف الولايات المتحدة بأنها “أمة من المهاجرين” لأنها تأسست وتطورت على أيدي أجيال متعاقبة من المهاجرين، كما أنها حتى اليوم تمثل الدولة الأولى في العالم من حيث استقبال المهاجرين، ولذلك كان من الطبيعي أن تكون أكثر المجتمعات تنوعًا وتفاوتًا في العالم. وأصبحت عبارة “نحن الشعب” في المجتمع الأمريكي تنطوي في الأساس على وفرة متنوعة من التقاليد الحضارية والأصول القومية والجماعات العرقية والملل الدينية.

فالولايات المتحدة شعب هجين التقت فيه كثير من الأجناس البشرية، وكلما امتد الزمن وفدت إليها عناصر جديدة، وتكون شعب جديد لا تربطه بالشعوب التي انحدر منها غير ذكريات تاريخية يثبت فيها أصالته أكثر مما يثبت فيها وجوده، ومع ما قاسى منه المهاجرون كانت الرغبة في إثبات الذات، صورة لمركب النقص الناجم عن مرارة الرحيل والأسباب التي حملتهم عليه.

وقد كانت بداية تكوين هذا الشعب من أفراد متباينين وغير متجانسين سواء في النشأة أو الصفة أو اللغة أو المذهب أو الثقافة، ولكنهم عاشوا معًا بشكل متجاور جمعت بينهم قضية المواطنة والقانون الجديد والانتماء للأرض والوطن.

تعاقبت على المجتمع العديد من التحولات والصدمات التي نجم عنها في بعض الأحيان العديد من الصدوع في البناء إلا أنها في الوقت نفسه ساعدت على تعريف البنية الأيديولوجية التي تقوم على تفرد التجربة الأمريكية وساعدت في بعض الحالات على تقوية هذه البنية.

ثلاثية الأمركة والبوتقة والاستيعاب

هذه البنية قامت على ثلاثة أركان، أولها حركة “الأمركة”، وثانيها فكرة “البوتقة” التي تقوم على الاعتقاد بأن الجميع يمكن امتصاصهم ويمكن أن يشتركوا في شخصية وطنية وليدة، وثالثها فكرة التعددية، وهي وإن شكلت الأساس الأول للمجتمع الأمريكي، فإنها لم تبق ثابتة، بل تطورت بتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.

وجوهر فكرة البوتقة أن المجتمع ما هو إلا حاصل جماعات وفئات تسعى كل منها وراء مصالح خاصة بها، وتتنافس فيما بينها للدفاع عن هذه المصالح داخل المؤسسات الاجتماعية المختلفة، وأن هناك عملية بموجبها تقبل الجماعة الاجتماعية الممثلة للثقافة المسيطرة أفرادًا منتمين إلى ثقافات أجنبية مختلفة وتدمجهم في ثقافة مشتركة.

وتقوم هذه المجموعات الثقافية الأجنبية بتنظيم نفسها، حتى تتمكن من التعريف بأهدافها ومصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويشهد المجتمع العديد من المفاوضات وصولًا إلى تسوية تحقق قدرًا من التفاهم بين الجماعة المسيطرة والثقافات الأجنبية، ثم يترتب على هذه المفاوضات توافق عام يتجسد بالإرادة المشتركة، وتصبح الجماعات الفرعية عناصر من الكل أو من الثقافة المشتركة.

أما فكرة الاستيعاب فتقوم على أن الديمقراطية الأمريكية هي نتاج للثقافة الأنجلوسكسونية وعليها أن تستوعب المجموعات الثقافية الأخرى، والمهاجرون وسائر الأقليات ليسوا مصدر إثراء للمجتمع، بل هم عناصر أجنبية يجب أن تتمثل القيم والسلوكيات المسيطرة، التي هي مكاسب تاريخية ناتجة من التأثيرات الأنجلوسكسونية، لذلك يجب العمل على تذويب أعضاء الأقليات والثقافات الأخرى وصبهم في قالب الثقافة الأمريكية المسيطرة، وذلك عن طريق دفعهم إلى التخلي عن عاداتهم ولغاتهم وتبني لغة الأكثرية وسلوكياتها.

لكن مفهومي “التأقلم الثقافي” و”الاستيعاب” كانا بالنسبة للعديد من أفراد الأقليات، يفترضان التقليل من قيمة تراثهم الفني والديني والثقافي، وأمام ذلك عبرت تلك الأقليات عن رفضها التخلي عن لغتها الأم وتقاليدها للالتحاق بالتيار الرئيسي.

ومن هنا كانت فكرة “التعددية الثقافية” وسيلة لتوسيع القاعدة الثقافية للمجتمع الأمريكي، وترتكز هذه الفكرة على ضرورة التعايش بين العديد من المجموعات الثقافية، والثقافة الغربية المسيطرة، وأن الثقافات الأخرى غير الانجلوسكسونية المسيطرة، يجب أن تُقبل وتُصان وتُقدّر حق قدرها، وتؤكد التعددية على أن التنوع يمكن أن يزدهر في ظل التعاون والتمسك بالمجتمع الديمقراطي، بما يضمن الوفاق الاجتماعي والسياسي.

وهنا يكون السؤال: كيف كان لهذه الأبعاد تأثيراتها في بنية المجتمع الأمريكي، وما تتسم به من خصائص؟

يتبع..

المصدر : الجزيرة مباشر