في ضوء طوفان الأقصى: كيف نحدد مواصفات الوطنية؟

من ميدان التحرير في ثورة يناير (غيتي)

 

استخدمت النظم الديكتاتورية مفهوم الوطنية في تزييف وعي الجماهير وإرغامها على تأييد انتهاك حقوق الإنسان، وتبرير قهر المعارضين وسجنهم ومصادرة أموالهم ونفيهم، فالوطني هو الذي يؤيد الحاكم الظالم، ويغنّي للوطن بكلمات مبتذلة.

احتكر المنافقون ولصوص المال العام والبلطجية مفهوم الوطنية، وقاموا بإبلاغ السلطات عن الثوار الأحرار الذين قاموا بدور تاريخي في ثورات الربيع العربي، وارتفعت أنكر الأصوات تهاجم تلك الثورات، وتتهم الشعوب زورًا وكذبًا بالمسؤولية عن أزمة اقتصادية تتزايد حدتها كل يوم، وتهدد بانتشار الفقر والغلاء والمجاعة.

وهؤلاء المنافقون يمدحون حكمة الزعيم التي تتجلى في الاقتراض، وإغراق البلاد في الديون، ويطالبون الشعوب بالصبر حتى لا تصبح البلاد مثل سوريا والعراق، والآن مثل غزة.

لكن هل آن للشعوب العربية مراجعة مفهوم الوطنية؟ واستعادة وعيها؟ لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها تثور فيه ضد التضليل، وترفض استخدام هذا المفهوم في تفكيك المجتمع وتقسيمه، وإثارة الكراهية بين الاتجاهات السياسية والفكرية.

توحيد الحركة الوطنية!

لقد عشت حياتي أعمل لتوحيد الحركة الوطنية عن طريق إدارة مناقشة حرة بين اتجاهاتها، للاتفاق على مجموعة من الأهداف من أهمها: تحقيق الاستقلال الشامل، ورفض التبعية لأمريكا وأوروبا وإسرائيل، وإقامة نموذج ديموقراطي يتم فيه احترام إرادة الشعب في انتخابات حرة نزيهة، وفتح المجال لإنشاء وسائل إعلامية حرة توفر المعرفة للجماهير، وتكشف الحقائق، وتعبّر عن الشعب، واستثمار ثروات الوطن لبناء اقتصاد مستقل يقوم على الاكتفاء الذاتي.

لكنني أرى الآن أن البداية الحقيقية للكفاح من أجل بناء مستقبلنا هي أن نحدد مفهوم الوطنية، فلا نسمح لأحد بعد اليوم باستخدامه في الدجل السياسي، وفي تبرير اضطهاد المعارضين وقهرهم.

و”طوفان الأقصى” يفتح لنا الآفاق لنفكر في بناء المفهوم، وتطوير تفكيرنا السياسي، والكفاح لبناء المستقبل، وحماية الجماهير من التضليل والدعاية وتزييف الوعي، وعدم السماح للمنافقين الذين يتاجرون بالوطنية بخداع شعوبنا.

الدفاع عن الأرض

من يريد أن يتعلم الوطنية، ويدرك معناها يجب أن يفتح قلبه وعقله ويطلق خياله، وهو يتابع المشهد في غزة، فالأبطال هناك يضحون بأرواحهم دفاعًا عن أرضهم.

والأرض في قلوبهم ترتبط بالهوية والتاريخ والحضارة والمستقبل، وهم يتمسكون بكل ذرة رمل فيها، ويرفضون المساومة والخضوع للقوة الغاشمة، ويصمدون عليها ويقاتلون عدوهم، ويصرون على تحريرها، ويختارون قياداتهم على قواعد القدرة في تقديم التضحيات والتاريخ الجهادي، والرؤية والقدرة على التخطيط الاستراتيجي لتحقيق الحلم العظيم، وهو تحرير فلسطين.

بذلك حدد أبطال فلسطين مواصفات الوطنية التي أصبح الشعب يعرفها جيدًا، لذلك يوفر الحاضنة الشعبية لهؤلاء الأبطال الذين يشاهدهم وهم يواجهون الدبابات الصهيونية من المسافة صفر، ويحلمون بالنصر أو الشهادة.

الوطني هو الذي يدافع عن أرضه، ويضحي من أجلها، ويواجه العدو في ميادين الجهاد بشجاعة القلب والضمير والإيمان، والتضحية هي التي يبرهن بها الإنسان على حبه لوطنه.

وحماية حرية الإنسان

وترتبط حرية الوطن بحرية الإنسان، فقيمة الوطن تكمن في أن يعيش عليه الإنسان سيدًا عزيزًا كريًما حرًا، ويموت عليه واقفًا وهو يدافع عنه، ويعيش عليه ليبني الحضارة ويفكر وينتج سلاحه وغذاءه ودواءه.

والأرض ترتبط في الوطن بالتاريخ، ففي هذا الوطن يعرف الجميع حسبي ونسبي وأجدادي الذين عاشوا هنا، وبنوا الحضارة وحققوا الانتصارات.

هؤلاء الذين يدافعون عن هذه الأرض يعرفون قبور آبائهم وأجدادهم، ويحملون وصاياهم، ويحفظون تاريخهم وأحلامهم، وورثوا هذه الأرض بكل ما تحمله من ذكريات، لذلك فإن جذوري مغروسة في هذه الأرض، تمامًا مثل أشجار الزيتون، ويمكن أن أعيش على أرضي كما كان يعيش أجدادي أزرع الأرض، ويكفيني ما تنتجه لأعيش سيدًا وحرًا.

لذلك ترتبط جغرافيا الوطن بتاريخه، فالأجداد هم فرسان الإسلام الذين حرروا هذه الأرض من الاحتلال الروماني، ثم من الاحتلال الصليبي، ولذلك أنا هنا في هذه الأرض بهويتي وتاريخي ونسبي وأصلي، أعرفها وتعرفني، تشتاق لي كما أشتاق لها، وأمد يدي لكل فرد فيها، فأرفض أن يهان أو يقهر.

الكل مقابل الكل

هل يفسر ذلك إصرار “حماس” على التمسك بمبدأ الكل مقابل الكل في صفقة الأسرى، وعلى تحرير مروان البرغوثي الفتحاوي، وأحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعبد الله البرغوثي الحمساوي، فمن حقنا أن نختلف، ويقدم كل منا رؤيته وبرنامجه ومشروعه ويخاطب الجماهير ليقنعهم بانتخابه، لكن نرفض ونأبي أن يتعرض أحد منا للقهر والاضطهاد، لذلك يجب أن يخرج الأسرى الفلسطينيون جميعهم أحرارًا، فهكذا تعلمنا “حماس” معاني الوطنية الحقيقية، وليت الحركات الوطنية تتعلم الدرس.

السلوك السياسي لـ”حماس” يوضح أخلاق الفرسان، ويوضح أهمية التمسك بالمبادئ، والتعبير عن حلم الشعب في التحرير والعودة، فكل الأسرى هم أبطال المقاومة، ورموز الشعب وقياداته، لذلك تعاملت “حماس” برؤية وطنية جامعة وخيال سياسي، فأصرت على أن يخرج الفتحاوي مع الحمساوي، وهي تعرف قيمة أحمد سعدات وأهميته في تاريخ النضال الفلسطيني.

هذا دليل على أن “حماس” تطبق مفهوم الوطنية الحقيقية، وتقدم الدرس لكل الأحرار في أمتنا العربية الذين سينتفضون يومًا ليبنوا المستقبل، وهم يحتاجون لمفهوم الوطنية الحقيقية، فالوطني يجب أن يستعد للدفاع عن الأرض، وحماية الإنسان من القهر والفقر، وتحريره من الظلم.

المصدر : الجزيرة مباشر