نتنياهو.. مصير معلق في فوهات البنادق!

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اجتماع مجلس الوزراء الأمني المصغر (الفرنسية)

لا يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن تتوقف الحرب التي يشنها جيش الاحتلال على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ إن مصير أطول السياسيين الإسرائيليين بقاءً في الحكم بات معلقًا على استمرار غارات الطائرات ودوران جنازير الدبابات وإطلاق دانات المدافع وتوجيه الرصاص الحي من فوهات البنادق نحو الفلسطينيين.

لا يريد رئيس الوزراء اليميني ذو القدرات الخطابية الواضحة أن يفقد منصبه الأثير الذي أصبح مهددًا بفقده في الساعة الأولى بعد توقف الحرب، عندما يبدأ الرأي العام في الدولة التي نشأت على أرض فلسطين التاريخية عام 1948 في محاسبة الساسة والعسكريين على فشلهم في توقع هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والإخفاق في صد اختراقات رجال المقاومة الفلسطينية ومنع أسر عشرات من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين.

ومنذ هجوم المقاومة الفلسطينية على السياج الحدودي ومستوطنات غلاف غزة في أكتوبر الماضي، فإن نتنياهو لم يعتذر لمواطني “دولة إسرائيل” ولم يعترف أبدًا بمسؤوليته السياسية عما حدث من اختراق وفشل استخباراتي وعسكري، وإنما ألقى باللوم دائمًا على قادة الأجهزة الأمنية دون أن يلمح في أي مرة لتحمُّله جزءًا من المسؤولية.

القفز إلى الأمام

فضّل السياسي الماكر الذي يواجه منذ سنوات اتهامات بالفساد والرشوة واستغلال النفوذ ألا يقف في مكانه منتظرًا انتقادات الصحافة العبرية التي تتمتع بحرية غير متاحة في الدول المحيطة بالكيان الصهيوني، واختار المناور الكبير ألا يترك نفسه نهبًا لسهام المعارضة الإسرائيلية، فقرر تجاهل كل المظاهرات التي طالبت برحيله ومحاكمته ورسم صورة القائد المنشغل بتفاصيل الحرب ومعاركها، وأن يرفع بجنون وإلى أقصى حد فاتورة الدم الفلسطيني، مراهنًا وفق حساباته الخاصة على أن تغيرًا في الرأي العام سيطرأ على اتجاهاته في الكيان الصهيوني، ويجعل منه قائدًا شجاعَا نهض بعد كبوة السابع من أكتوبر لينتشل جيش الاحتلال من براثن الفشل ويرفع رايات النصر على أنقاض وركام قطاع غزة وفوق جثث عشرات الآلاف من أطفال ونساء الفلسطينيين.

اختار السياسي اليميني الذي يكمل بعد أشهر عامه الخامس والسبعين أن يتخذ موقف القائد المتشدد الذي لا يهادن في مصلحة “وطنه”، وأن يقوم بقفزة إلى الأمام ليقود الحرب بأكبر قدر من النزق والتطرف، مطلقًا نيرانًا عاتية تجاه الشعب الفلسطيني، ومنحيًا كل قواعد الاشتباك في الحروب الحديثة، ومتجاهلَا كل مواثيق القانون الدولي بشأن مسؤولية الدولة والجيش المحتل عن الشعب الواقع تحت نير الاحتلال.

ما بعد الصدمة

أدرك بنيامين نتنياهو، بعد أن أفاق من صدمة هجوم المقاومة الفلسطينية قبل ستة أشهر، أن الحرب ولا شيء سواها ستضمن له الاستمرار في موقع القيادة، وأن أزيز الطائرات الحربية وقصف قنابلها على قطاع غزة المنكوب سيطغى على أصوات المعارضين له والداعين إلى استقالته، وأنه كلما زاد في وتيرة الإبادة الجماعية، ودمر بيوت السكان ومنشآت المؤسسات الحكومية والمدنية، وضيّق الخناق على قوافل المساعدات الإنسانية لقطاع غزة لتجويع الشعب الفلسطيني، كان هذا ضمانًا له لأن يستعيد مكانته التي سقطت تحت ضربات المقاومة الفلسطينية صباح السابع من أكتوبر الماضي.

بعيدًا عن واشنطن

أدت سياسات بنيامين نتنياهو المتطرفة وتجاوز جيش الاحتلال لكل الخطوط الحمراء في استهداف المدنيين الفلسطينيين إلى توتر مكتوم ثم معلن بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرئيسي للكيان الصهيوني، وتكفلت قوافل الشهداء الفلسطينيين والمقابر الجماعية في شوارع غزة وحول مستشفياتها المحاصرة والتجويع المتعمد في تغيُّر مواقف الدول الكبرى التي تدعم إسرائيل منذ عقود، وأن تتخلى واشنطن لأول مرة عن حليفتها المفضلة، وأن تخذلها بعدم استخدام حق النقض (فيتو) قبل أسابيع لإجهاض قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وزيادة وتيرتها.

التغير في موقف الولايات المتحدة الأمريكية من العدوان الإسرائيلي ليس مرجعه إنسانية طارئة أو أخلاقية هبطت فجأة من السماء ولكنه حدث بفعل عاملين، أولهما خارجي وهو تغيُّر في موقف مؤسسات المجتمع المدني في أنحاء العالم وخاصة في دول أوروبا وما تبعه من انعكاس ذلك على موقف الحكومات الغربية التي باتت تتحدث علنًا عن عدم موافقتها على الأرقام الكبيرة للضحايا الفلسطينيين وعن رفضها لتجويع النساء والأطفال بمنع إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.

وقد عبّر نتنياهو عن غضبه من موقف الدول الغربية، فخاطبهم قبل أسابيع مهاجمًا “هل فقدتكم ضمائركم؟ وهل نسيتم ماحدث في 7 أكتوبر؟”.

أمريكا تتغير

ولم يكن من اللائق أن تصم الولايات المتحدة آذانها عن صوت المجتمع الدولي حتى مع كونها حامية إسرائيل والمتعهدة الرسمية بالدفاع عنها ومدها بالسلاح والمعونات، وقد استجابت واشنطن ببطء للتغير في موقفها من عدوان إسرائيل لكنها لم تستطع أن تقاوم تغيُّر المواقف حولها.

وقد طرأ التغير ذاته في موقف المجتمع الأمريكي الذي شهد حراكًا متعاطفًا مع المأساة الفلسطينية، لكنه لم يكن كافيًا وحده لأن يصل إلى دهاليز الإدارة الأمريكية في العاصمة واشنطن لولا أن بلاد “العم سام” تعيش عام الانتخابات الرئاسية، ولولا أن استطلاعات الرأي بين الناخبين أشارت بوضوح إلى تأثر شعبية المرشح الديمقراطي الرئيس الأمريكي الحالي جون بايدن بموقفه المتساهل والداعم لإسرائيل رغم ما ارتكبته من مجازر وإبادة كانت محل نظر في قضية رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.

لم يكن تغيُّر الموقف الأمريكي في حسبان نتنياهو الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وعمل في نيويورك مندوبًا لإسرائيل في الأمم المتحدة بين عامي 1984 و1988، ويحتفظ بعلاقات واسعة مع السياسيين ورجال الأعمال الأمريكيين، فكان أن ألغى زيارة وفد إسرائيلي لواشنطن، وأدلى مرارًا بتصريحات تؤشر إلى خلاف واضح بين دولة الاحتلال وراعيتها الكبرى.

لم يكتف نتنياهو بهذا بل أوعز قبل أيام إلى الوفد الإسرائيلي في مفاوضات القاهرة بعدم الموافقة على مقترحات أمريكية قدّمها وفد واشنطن للتوصل إلى هدنة واتفاق لتبادل الأسرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

ورغم الزخم الذي تجري فيه جلسات التفاوض التي تحضرها مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية مع وفدي إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) فإن نتنياهو حريص على عدم نجاح المفاوضات، إذ دأب على إرسال وفود منزوعة الصلاحية لا تستطيع البت في أي تفصيلة دون الرجوع إليه، لكي يكون لديه فرصة للمناورة ووضع عراقيل جديدة أمام مفاوضي “حماس”، وهو يعلم تمامًا أن ما أريق من الدم على أرض غزة لن يجعل الخيارات كثيرة أمام المفاوض الفلسطيني.

الحرب هي الهدف

يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي المخضرم حدود ما قد يقبله الفلسطينيون بعد 186 يومًا من العدوان والدمار، وهو حريص على ألا يبلغ معهم نقطة اتفاق، وكلما قدّموا تنازلات تصرف بمنطق “هل من مزيد؟”.

وقبل أيام، صرّح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأن نتنياهو سيفقد منصب رئيس الوزراء إذا لم يهاجم رفح التي تكتظ بأكثر من 1.5 مليون نازح من أنحاء غزة، فما كان من نتنياهو إلا المسارعة بالرد عليه عبر مقطع “فيديو” نشره على حساباته بمواقع التواصل الاجتماعي، يؤكد فيه أنه لا شيء سيمنعه من اجتياح رفح، وأنه جرى تحديد موعد لذلك.

ويأتي نقل قوات من جيش الاحتلال خارج قطاع غزة استعدادا لتصعيد محتمل مع “حزب الله” حليف إيران في الجبهة الشمالية لإسرائيل على الحدود مع لبنان في إطار سعي نتنياهو لاستمرار الحرب مع لبنان إذا أُجبر على وقف العمليات العسكرية في قطاع غزة المحتل.

يفعل نتنياهو الذي كان وزيرًا سابقًا للدفاع كل ما في وسعه لاستمرار أوار الحرب، وهو يدرك أن مصيره معلق بفوهات بنادق جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأن توقف الرصاص معناه أن تدق ساعة الحساب، وأن مصيرًا مجهولًا ينتظر أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي وُلد على أرض فلسطين التاريخية.

المصدر : الجزيرة مباشر