“المكارثية” في إسرائيل!

إسرائيليون يتظاهرون بالقرب من الكنيست (رويترز)

لا يزال “جوزيف ريموند مكارثي” الذي غيَّبه الموت في 2 مايو/أيار 1957 حيًّا بميراثه في إرهاب كل صاحب رأي مخالف له لصالح سيادة رواية وسردية مفردة لا تعرف التلازم أو المصاحبة أو التنوع.

وقد عُرف “مكارثي” الذي كان نائبًا جمهوريًّا في الكونغرس الأمريكي من عام 1947 حتى وفاته باتهامه لكل معارض له بأنه شيوعي، حيث ذاعت شهرته مع بدايات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي الذي بدأ صراع النفوذ مع الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصارهما معًا على جيوش ألمانيا الهتلرية.

تاريخ المصطلح

وفي تلك الأجواء وجد النائب الأمريكي ذو التوجهات اليمينية فرصة لسحق معارضيه عبر إشاعة أن عددًا كبيرًا من الشيوعيين والسوفيت والمتعاطفين والجواسيس أيضًا موجودون في أروقة الإدارة الأمريكية.

وقد كانت كل اتهامات “مكارثي” بلا دليل ولكنه كان صاخبًا وشعبويًّا في اتهاماته، فأطلقت الصحافة الأمريكية مصطلح “المكارثية” على من يحاول إرهاب المختلفين معه في الرأي بإلقاء اتهامات عامة وكبيرة وفضفاضة وبدون دليل عليها.

“مكارثي” في إسرائيل

وقد أطل “مكارثي” من قبره ليثبت حضورًا طاغيًا في الدولة العبرية التي نشأت بتواطؤ غربي على أرض فلسطين التاريخية عام 1948، لكن ظهور “مكارثي” بدأ خافتًا بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما اقتحمت المقاومة الفلسطينية السياج الحدودي بين قطاع غزة والكيان الصهيوني وهاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي وعددًا من مستوطنات “غلاف غزة”، وبعد ستة أشهر من العدوان الوحشي على البشر والحجر في غزة، فإن “المكارثية” أصبحت لها اليد العليا في الصحافة الإسرائيلية التي تتمتع بالحرية عدا ما يخص حقوق الفلسطينيين في الحياة والأرض.

الطُّعم

يلتقط المتلقي في إسرائيل طُعم المكارثية بسهولة، فالإعلام العبري يتجاهل الوضع الإنساني المأساوي، والوضع الصحي الكارثي المزري، وحجم الدمار والخراب في قطاع غزة، كما يتم تغييب تقارير منظمات الإغاثة الدولية ومنظمات الأطباء والصحة، وكذلك تغطيات وكالات الأنباء العالمية، وبالطبع تقارير المؤسسات التابعة لحركة حماس في غزة عن أعداد الشهداء والمصابين برصاص وقذائف جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومع إعلام تلعب الصورة فيه دورًا حاسمًا فإن صور المآسي الفلسطينية وآثار وأدلة الجرائم الإسرائيلية تُغيَّب عن عمد.

الاتهامات الجاهزة

وبالطبع فإن المختلفين مع السياق العام والفلك الذي تدور فيه الصحافة الإسرائيلية لا يُتهمون بالشيوعية كما كان يفعل “جوزيف مكارثي”، ولكن الاتهامات الجاهزة هي “اللاسامية” و”معاداة اليهود” أو “لاسامية ذاتية”، والتواطؤ مع الفلسطينيين والجاسوسية والخيانة، والعمالة والتخريب، وغيرها من اتهامات تضع ضحيتها في مرمى التحريض والانتقام على اتساع دائرته.

وقبل 3 أسابيع، وجّه إسرائيليون وفلسطينيون، بينهم خبراء في القانون الدولي والسياسة والتاريخ، رسالة إلى الرئيس الأمريكي جون بايدن، تستند إلى تعريف اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالإبادة الجماعية التي تستلزم توفر الفعل والنية، معًا من جانب مرتكب الإبادة الجماعية، وقالت بوضوح إن “الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة يشمل هذين العنصرين”، ومِن ثَم يُوصف بأنه “إبادة جماعية”.

الحملة ضد المُوقعين

وتُعَد الحملة ضد المُوقعين على العريضة مثالًا لافتًا لسيادة المكارثية في الإعلام الإسرائيلي، إذ ركّزت القناة 14 على أسماء المُوقعين من الأكاديميين، وتعمدت نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتولى المغردون الموجَّهون حملة التحريض، أما في قناة “كان 11” فقد اختار برنامج “أيالا حسون” عشرين باحثًا إسرائيليًّا فقط، واستهدفهم بالنقد والتحريض واحدًا واحدًا دون إشارة إلى أن العريضة وقعها ألف من الباحثين والأكاديميين بينهم حاصلون على جوائز نوبل، ودون معرفة لماذا اختصوا هؤلاء فقط بما يوحي بأنهم قلة مأجورة رغم أنهم لم يوقعوا وحدهم.

ولم يسلم الموقعون على العريضة من الانتقادات والاتهامات الجاهزة في دوائر السلطة التشريعية، إذ طالبت عضو الكنيست عن حزب الليكود “كيتي شطريت” بالتحقيق مع جميع المُوقعين على الرسالة، كما طالبت عضو لجنة الخارجية والأمن القومي بالكنيست “ليمور سون هار ميلخ” بسحب الميزانيات من المؤسسات التي لم تتخذ إجراءات عقابية بحق المُوقعين.

وقد دفع الأكاديمي “ريغف نتنزون” ثمن استجابة جهة عمله لتحريض نواب الكنيست، فبعد توقيعه على العريضة الموجَّهة إلى الرئيس الأمريكي كان جُل اهتمام مئات الطلاب هو طرد البروفيسور نتنزون من كلية “سبير” الأكاديمية، كما نددت مديرة الكلية بشدة بتصريحات نتنزون المناهضة للحرب، وعَدَّتها موجهة “ضد جنود الجيش الإسرائيلي”، وحظرت عليه استخدام اسم الكلية في تقديم نفسه وهو يتحدث للرأي العام، رغم أن نحو ألف من المُوقعين الآخرين قد أشاروا إلى أسماء المؤسسات التي ينتمون إليها، ومن بينها جامعتا هارفارد وأوكسفورد، ولم تكتف إدارة الكلية بانتهاك حق نتنزون في التعبير عن رأيه بحرّية، بل تسببت أيضًا في تصعيد موجة التحريض ضده بعد أن سمحت بظهور تعليقات على حسابها بموقع إنستغرام تصفه بأنه “داعم للإرهاب” و”مُخرّب”، بل وأبدت إعجابًا بتعليق طالب كاتبه بفصل نتنزون من الجامعة لأنه “داعم للإرهاب”.

أمثلة أخرى

وقد استعرض “شيرا كلاين” و”ليئور شترينفيلد” في مقال بصحيفة (هآرتس) ضحايا المكارثية في إسرائيل بجانب “نتنزون”، إذ أشار الكاتبان إلى “مائير بروخين” مدرس التاريخ الذي فُصل من عمله واعتُقل بشبهة الخيانة، لمجرد أنه من خلال صفحاته وحساباته الخاصة أظهر التعاطف والأسى لموت الفلسطينيين في غزة، وانتقد عدم اكتراث الجماهير بالفاتورة التي يدفعها أهالي القطاع.

كما أشار الكاتبان إلى البروفيسور “نوريت بيلد إلحنان” التي فقدت ابنتها في عملية للمقاومة الفلسطينية قبل سنوات، مما جعلها تنظر إلى الصراع من أوجه وزوايا مختلفة، لكنها حين حاولت مناقشة هجوم السابع من أكتوبر في سياق أوسع يتعلق بالصراع العنيف الممتد بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تم إنهاء عملها في كلية “ديفيد يلين”.

ولفت المقال إلى العقوبة التي فُرضت على فريق “أبناء سخنين” لكرة القدم، الذي ينتمي إلى الوسط العربي، لأنه لم يحترم النشيد الوطني الإسرائيلي.

لا يمكن حصر حالات المكارثية في وسائل الإعلام الإسرائيلية من كثرتها، إذ تُقمَع الآراء بحجة عدم المس بالروح المعنوية للشعب وبالقدرة القتالية للجنود، ومن المؤكد أن الرقابة وقمع حرية التعبير يعبّدان الطريق نحو الديكتاتورية، وعرض رواية واحدة عن الحرب في قطاع غزة ترى أن من يتجرؤون على الاحتجاج هم خونة، ولذلك يرى الكاتبان أن الطريق إلى الاستبدادية المطلقة لم يعد بعيدًا.

المصدر : الجزيرة مباشر