ربيع الجامعات الأمريكية.. انتفاضة من وحي حرب فيتنام

مظاهرات طلاب الجامعات الأمريكية تشتعل ضد العدوان الإسرائيلي على غزة (الأناضول)

تتجه الأنظار في ظل الحرب الدائرة على غزة إلى انتفاضة الطلاب في الجامعات الأمريكية، ذاك الحراك الذي يتصاعد ساعة بعد ساعة وبسرعة البرق لتنضم إليه جامعات أخرى تضامنًا مع حراك جامعة كولومبيا التي أطلقت الشرارة الأولى، مع اعتقال نحو 100 من طلابها والتنكيل بهم.

الحراك الدائر الآن يصلح أن نطلق عليه ربيع الجامعات الأمريكية، فهو ينطلق من وحي انتفاضة الطلاب الأمريكيين في حرب فيتنام قبل 60 عاما لجيلين مختلفين، جيل عاصر حرب فيتنام وشهد مقتل آلاف الجنود الأمريكيين ولم يعرف مواقع التواصل الاجتماعي، والجيل الحالي الذي تربى على تطبيقات مثل “تيك توك”، لكن في كلتا الحالتين فإن ما جمعهما هو الفطرة الغريزية التي تستوجب نصرة الضعيف وحق الشعوب في تحرير أوطانها والتخلص من الاستعمار.

طلاب من أعراق مختلفة

ويجب أن لا ننسى الفوارق الكثيرة بين الحراكين، فنوعية الطلاب المشاركين ضد حرب فيتنام كانوا من الطلاب البيض، أما الحراك القائم اليوم فيعتبر أوسع وأشمل لأن من يمثلونه هم من أعراق مختلفة حركتها أكثر من أي وقت مضى مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي تخطت كلمات السياسيين وكذبهم وتبريراتهم، لتنشر الحقيقة بالصوت والصورة.

ولعل ارتفاع أعداد الطلاب العرب الملتحقين بالدراسة في أمريكا من عام لآخر، التي تقدر بنحو 36 ألف طالب سنويًّا، تعد من الأسباب الهامة التي ساهمت في نشر الرواية الفلسطينية وحقيقة الصراع في الشرق الأوسط لدى الطلاب الأمريكيين وغيرهم، وأدت إلى إحداث شرخ في الرواية الصهيونية.

صحيح أن الحراك الطلابي في أمريكا سبق أن تصاعد أكثر من مرة خلال السنوات الماضية وكان آخرها بعد مقتل رجال سود بأيدي الشرطة الأمريكية عام 2020 ولكن مستوى التمثيل الطلابي فيها لم يرق إلى مستوى الاحتجاجات المستعرة حاليًّا المناهضة لحرب غزة.

جيل “التيك توك”

قبل الحرب على غزة أُلصقت تهمة التفاهة بالجيل الصاعد وأطلق عليه جيل “التيك توك”، ولا سيما في دول الغرب، لكن ما يحدث الآن نسف كل هذه التهم عن هذا الجيل الذي نفض عن نفسه غبار التفاهة ليشارك بفعالية في مظاهرات واعتصامات هزت البيت الأبيض مؤخرا، إذ أدان بايدن هذا الحراك وقال إنه من الضروري التحدث علنًا ضد “التصاعد المقلق لمعاداة السامية في مدارسنا ومجتمعاتنا وعلى الإنترنت”، كما اعتبر مناصرو الصهيونية أن هؤلاء الطلبة “معادون للسامية”.

والأمر المثير للدهشة أن “تيك توك” ذاته الذي أُلصقت بمتابعيه صفة اللامبالاة والتفاهة، هو نفسه الذي ساهم بشكل كبير في إحداث صدمة نفسية وقاسية للشعب الأمريكي بشكل عام والطلاب بشكل خاص وهم يشاهدون الصور القادمة من غزة عبر “تيك توك” لتيحول هذا التطبيق من أداة تبث التفاهة إلى محرك سياسي أجّج المشاعر، وا سيما مع نشر جنود الاحتلال لجرائمهم في غزة عبر التطبيق متباهين أمام العالم، لتتحول إلى أداة إدانة لهم بالصوت والصورة، وهو الأمر الذي دفع بعض الأصوات السياسية الغربية الداعمة للصهيونية إلى حظره.

لم يكن يتخيل أحد أن وقفة احتجاجية في جامعة كولومبيا قرر أعضاؤها التخييم داخل الجامعة للضغط على المسؤولين فيها لاتخاذ إجراءات بعدم التعامل مع إسرائيل في مجالات منها الاستثمار المالي والتبادل الأكاديمي، ستتحول إلى انتفاضة عارمة تنتقل عبر الجامعات الأمريكية، فالقمع الذي واجهه الطلاب من الشرطة بعد أن لفقت رئيسة الجامعة تهمة العنف للمتظاهرين، قد يكون الأعنف في تاريخ الجامعات الأمريكية.

ولعل ردّ إدارات الجامعات الأمريكية التي انتفض طلابها نابع من أن معظم هذه الجامعات تتلقى الدعم المالي من منظمات يهودية، إذ أدى هذا الدعم إلى تبني تلك الجامعات سياسات تمنع التعاطف مع الفلسطينيين وتصفهم  بالإرهابيين، وتجريم انتقاد إسرائيل والحرب على غزة، تلك السياسات أدت إلى اعتقال عشرات الطلاب ووقف عدد منهم عن الدراسة وطردهم من سكنهم؛ وهو ما أشعل فتيل الغضب في طلاب جامعات أخرى فطالبوا بتوضيح ما حدث، وبدؤوا أيضا بحراك طلابي دعمًا لزملائهم يرافقهم أعضاء هيئات تدريس، ليشمل الحراك اليوم، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعات ييل ونيويورك وبراون وميتشغان وهارفارد وغيرها.

وهنا لا بد أن نشير إلى دور حركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” التي تعد الأكثر نشاطا في الأوساط الطلابية الأمريكية، عقب تنظيمها وقفات سلمية داخل الجامعات الأمريكية ولا سيما بعد السابع من أكتوبر والحرب على غزة، إذ ساهمت الحركة بالرغم من المضايقات المتكررة لأعضائها في التعريف بالقضية الفلسطينية وكشف الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل والتواطؤ في دعم الإبادة الجماعية في غزة.

انتفاضات لن تعود إلى الوراء

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل سيكون لهذا الحراك الطلابي أي تأثير في السياسة الأمريكية في دعمها المطلق لإسرائيل في حربها على غزة؟

هنا قد نستلهم جزءا من الإجابة مما حدث في التحرك الطلابي الأمريكي في حرب فيتنام آنذاك الذي انضم إليه أكاديميون ومدرسون وحركات يسارية مختلفة، وكان من نتائجه التي ظهرت بعدها بسنوات، انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام، لكن الأمر الآن والتأثير سيكون أسرع مما نتخيل، فالحراك ينتقل إلى مختلف الجامعات الأمريكية وقد تنتقل العدوى إلى جامعات أخرى في الغرب، مستلهمة حراكها من الشعارات التي يرفعها الطلاب الأمريكيون في وجه الساسة المناصرين للصهيونية “كم طفلًا قتلتم اليوم في غزة؟”.

والأمر غير القابل للشك هو أن من انتفض اليوم من الطلاب الأمريكيين لأجل غزة والشعب الفلسطيني، وصل إلى اقتناع ووعي عميق بمظلومية هذا الشعب، وأن هذا الحراك لن يعود إلى الوراء بالرغم من التضييقات والإقصاء، ومن غير الممكن أن يؤدي القمع وتكميم الأفواه إلا إلى مزيد من التعنت والإصرار.

المصدر : الجزيرة مباشر