حرب غزة.. و”مأزق” الديمقراطية الغربية

المظاهرات المناصرة لغزة تزعج مؤيدي إسرائيل في بريطانيا
مظاهرات تضامن مناصرة لغزة في بريطانيا (رويترز)

لم تدفن حرب الإبادة الصهيونية المتواصلة في غزة، “المنظومة الأخلاقية” التي طالما تغنت بها الأنظمة الغربية فقط، بل أوضحت بجلاء أن الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية تمر بأزمة عصيبة، الأمر الذي أوصلها إلى نقطة تحول حادة تنفتح على احتمالين: الأول، ارتدادها وانحسارها، كما حدث في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، والثاني، السير بها إلى آفاق رحبة تنهض بمؤسساتها، بشكل يحيي روح المبادئ الديمقراطية التي خبت، ويعمق المشاركة المجتمعية.

قسوة رهيبة.. وبون واسع

إذا كنت تريد دليلاً على القسوة الرهيبة التي تمارسها ما يسمى بـ “الديمقراطيات الغربية”، فلن تجد أوضح من الحرب في غزة، والتي راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور نحو ١٠٠ ألف شهيد ومصاب، وتتم بتنسيق دولي ودعم وتسليح بل ومشاركة مباشرة من القطب الأوحد للنظام العالمي، ومعه عشرات من الدول الغربية الكبرى، التي تدافع عن الإبادة في المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام وفي برلمانات دولهم.

ووصل الوضع إلى حد أن تقوم دول العالم الغربي ومؤسساتها بتعطيل الحقوق الأساسية الديمقراطية في بلادهم نفسها، لإعانة الإبادة وقمع صوت ضحاياها والمتعاطفين معها.

ولم يكن الأمر مفاجئًا أن تدعم الولايات المتحدة إسرائيل، لقد كان أمرًا لا مفر منه تمامًا، ولكن هل كان من المحتم أن يقفز بايدن، على الفور، ودون حتى تفكير على متن طائرة، ويسافر إلى إسرائيل، ويعانق رئيس الوزراء المتطرف بنيامين نتنياهو علناً، على شاشة التلفزيون، أمام العالم أجمع، ويعلن “نحن ندعم إسرائيل دون قيد أو شرط”، مانحا هذا “الوحش” شيكاً على بياض ليفعل ما يريد؟

وكيف لم تضع واشنطن راعية حقوق الإنسان في العالم، في حساباتها، وهي تستخدم حق الفيتو، لمنع منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ضرورة الوقف الفوري للمذبحة، التي أودت بحياة بلغ 14 ألف طفل، في حين قدر عدد الشهداء من النساء بـ 8 آلاف و900 شهيدة منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي..

هذا الانحياز الفج شكل صدمة كبيرة لقطاع مهم من الناخبين، خصوصا من العرب والمسلمين والسود الذين انتخبوا بايدن، لتبنيه مواقف منحازة للأقليات، وللعدل الاجتماعي وللحق الفلسطيني، وهو ما يعني أن مساندته كانت تعبر عن روح شعبية طامحة للتغيير ومستعدة لعمل أي شيء من أجل تحقيقه، وهذا كان تطورا إيجابيا.

لكن التناقض أن تلك الروح وظفت في حملة انتخابية رئاسية لمرشح أحد حزبي الرأسمالية الكبيرة، ظنا من الجماهير أن هذا هو الطريق إلى التغيير الذي تطالب به، ليصحو على حزب توصم أغلبيته المظاهرات الطلابية الضخمة التي خرجت ضد المذبحة، بمعاداة السامية.

أوروبا تنتفض.. لكن

تشهد التظاهرات التي خرج فيها الملايين في العواصم الأوروبية، مستوى عميق من الامتعاض والازدراء حيال إسرائيل وسياساتها، أولا من منطلقات أخلاقية وإنسانية بسبب المذابح التي يتعرض لها الفلسطينيون، وثانيا من منطلقات سياسية- قانونية محضة، ولكن الأنظمة الأوروبية، وباستثناءات قليلة، كان لها رأي آخر.

وعلى سبيل المثال، وبعد 24 ساعة فقط من تظاهر نحو 100 ألف بريطاني في وسط لندن، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار، تباهى رئيس الوزراء البريطاني ريشى سوناك بأن بلاده إلى جانب أمريكا وفرنسا، ساهموا في إسقاط المئات من الصواريخ والطائرات الإيرانية المسيرة خلال قصف طهران لمواقع إسرائيلية انتقاما من الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق.

وبينما كانت وسائل إعلام دولية، تردد نفس الخطاب حول “إدانة المجتمع الدولي لهجمات إيران على إسرائيل”، كان الرأي العام الأوروبي في مكان آخر تماما.

قناة “سكاي نيوز” أجرت مقابلة مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج تحت عنوان: “يتم دراسة كافة الخيارات ضد إيران”. وفي المقابلة وجه الرئيس الإسرائيلي انتقادات حادة لإيران وقال إنها انتهكت بشكل صارخ القانون الدولي، وإن إسرائيل سترد ولديها قائمة من الخيارات يتم دراستها.

التعليقات على مقابلة الرئيس الإسرائيلي مع قناة “سكاي نيوز”، تضمنت مستوى مدهشا من الانتقادات للغرب ولإسرائيل، ومن ضمن تلك التعليقات: “مستوى النفاق الغربي لا يصدق”، “إسرائيل تتحدث عن القانون الدولي!”، “إن الهجوم المتعمد على قنصلية دولة أخرى وقتل مواطنيها هو إعلان حرب، وإسرائيل هي التي أعلنت ذلك. لا تلعبوا دور الضحية هنا، إنه أمر مقزز”.

المواطن باعتباره زبونا

لكن وصول السياسات الليبرالية إلى هذا الدرك، كان وراءه مشوار طويل من المتغيرات والأزمات، رحلة بدأت في سبعينيات القرن الماضي، حيث لم يجد الاقتصاديون الرسميون وسيلة للخروج من الأزمة الرأسمالية العالمية، سوى التبشير بالليبرالية الجديدة.

وكان هذا التحول واضحا جدا في إعلان رئيسة وزراء بريطانيا “مارغريت تاتشر” الشهير بإنه “لا يوجد شيء يسمى المجتمع.. لا يوجد سوى الافراد”.

تاتشر، التي لُقبت بالمرأة الحديدية، قامت خلال توليها رئاسة الوزراء خلال الفترة من 1979 إلى 1990، بتخفيض الضرائب على الأغنياء، وتحطيم النقابات العمالية، من أجل تطبيق سياساتها الليبرالية.

ولم تقتصر الليبرالية الجديدة على اختزال البشر في صورة كائنات اقتصادية تحركها رغبتها في تعظيم مكاسبها، ولكنها تمثل أيضا فهما خاصا للغاية لليبرالية السياسية.

وبحسب الفيلسوفين الأمريكيين “جون راولز”، و”رونالد دوركين”، وهما اثنان من أكثر الكتاب انتشارا في فلسفة الليبرالية الحديثة السياسية، فإن هناك “مفهومين جوهريين يتعلقان بالليبرالية، الأول هو الاهتمام والاحترام المتساوي لجميع المواطنين، والثاني هو دور الدولة في ضمان “استقلالية” المواطنين في اختيار ومواصلة مشاريع حياتهم”.

لكن، المفاهيم تبدلت في ظل الخطاب الليبرالي الجديد، وقدم الاقتصاديون فهما للمبدئين على أنهما يعنيان حيادية الدولة، بغض النظر عن النتائج، التي تأتي من المنافسة في السوق المفتوح، بينما يشدد الكاتبان على أن “تمكين المواطنين للحصول على المساواة والاهتمام، يستدعي تدخل الدولة، خصوصا مع التغيرات التي حرمت غالبية السكان في جميع أنحاء العالم من الكثير من حقوق المواطنة”.

ويجادلان، كذلك، أن السياسات الليبرالية الجديدة “غيرت في تركيبة النخبة الحاكمة من خلال تقديس التكنوقراطية.. لتصبح عملية صنع القرار، تخص فقط التكنوقراطيين والخبراء، مع إبعادها أكثر فأكثر عن مختلف قطاعات المجتمع”.

ويخلص المنظر الاجتماعي البريطاني “ديفيد هارفي” في كتابه الشهير، “الليبرالية الجديدة.. موجز تاريخي “، إلى “أن الليبراليين الجدد يشكون في الديمقراطية إلى حد بعيد.. فالحكم بواسطة الأغلبية يعد تهديدا محتملا لحقوق الفرد”، فيما تلفت جريدة “تريبيون” البريطانية، الانتباه إلى دور الشركات متعددة الجنسيات الكبرى الطاغي، في تطويع نواب البرلمان لخدمة مصالحها ومواقفها السياسية، وتقول الجريدة إن “لوبي إحدى هذه الشركات نجح في اختراق حزب العمال البريطاني، لكي يدفع بسياسة الحزب يمينا، تحت قيادة كير ستارمر، الذي أيد في البداية صراحة حرب الإبادة الصهيونية، ورفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار”.

لليمين در

ورغم أن المدافعين عن النموذج الليبرالي الجديد، قد طرحوا التغييرات التي أتوا بها كعقيدة دينية، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية واندلاع الحروب الاستعمارية، والمقاومة الاجتماعية، منحت الإنسانية فرصة للتغيير في اتجاه مضاد لليبرالية الجديدة، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، فحصد اليمين المتطرف، في دول عديدة، ثمار المقاومة المتصاعدة، واعتبر أن الأقليات والمهاجرين، وعلى رأسهم المسلمين والعرب هم سبب الأزمة الخانقة.

وهذا العام، يرتفع منسوب القلق في العالم الغربي، مع تصاعد نفوذ الأحزاب الفاشية، والتي تستعد للفوز بأغلبية المقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران المقبل، حسبما تشير استطلاعات الرأي.

البلاء الأخطر من ذلك، كما أوضح مقال نُشر في صحيفة الديمقراطية في شهر يوليو/تموز، للكاتبين روبرتو ستيفان فوا وياشا مونك، أنه في الثمانينات والتسعينيات “كان الشباب أشدّ حماساً من سابقيهم لحماية حرية الرأي وأقل قدرة على تبني التطرف السياسي. أما اليوم، فقد انقلبت الموازين: ففي المُجمل، دعم التطرف السياسي في أمريكا الشمالية وفي أوربا الغربية أعلى بكثير عند الشباب مما كان عليه عند سابقيهم، وتراجع دعمهم لحرية الرأي”.

وسجل المؤلفان، أن عدد الأشخاص، الذين يعتبرون أن الحكومة العسكرية، هي حل جيد أو جيد جداً لا يفتأ يزداد في الولايات المتحدة، ويبدو أن قسماً من الناخبين مستعدون للنظر في بدائل سياسية غير ديمقراطية وغير ليبرالية.

 

مسار آخر ممكن

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ذلك المتعلق بقدرة الجماهير الغاضبة بالغرب على تبني خيار آخر متقدم يتجاوز الديمقراطية التمثيلية.. وهنا يطرح الإصلاحيون، “الديمقراطية التشاركية”، كبديل يؤكد ضمان مشاركة المواطنين في القرارات التي تؤثر على مستقبلهم، مما يساهم في الحد من احتكار السلطة، وتعزيز الخضوع للمساءلة بصورة أفضل.

وفي هذا السياق، من الجدير تأمل كيف أدت عملية توسيع المشاركة الاجتماعية في البرازيل، التي بدأت مع الضمان الدستوري للحريات والحقوق، إلى تشجيع صياغة آليات مشاركة مؤسسية، كما تشير ورقة “الديمقراطية التشاركية في البرازيل: ضمانات وأفكار جديدة وتحديات دستورية”، التي نشرت على موقع “مبادرة الإصلاح العربي” على الإنترنت.

وتوضح الورقة، أن “الضغوط الاجتماعية في البرازيل من أجل توسيع المشاركة لم تكن تقصر هذا المفهوم على مجرد العملية الانتخابية. فقد أدت تجربة الحكم التشاركي، التي أطلقها دستور 1988، إلى ظهور مجال وفضاءات عامة، وفرضت إعادة تشكيل للعلاقات بين الدولة والمجتمع. وبرزت هذه الظاهرة من سياق تاريخي لم تحقق فيه الدولة مطالب اجتماعية، وهو ما خلق فرصا لظهور أفكار ديمقراطية مبتكرة”.

بينما يدافع الراديكاليون، مثلما يطرح المفكر البريطاني إليكس كالينكوس القيادي بحزب العمال الاشتراكي، عما يسميه الديمقراطية من أسفل، مشيرا إلى أنه خلال أي ثورة أو حركة جماهيرية كبرى، تبرز أمام الجماهير الكثير من الصعوبات التي تعوقها عن استكمال طريقها.

ويضيف “تواجه الجماهير هذه المعضلات بالتنظيم والوحدة، وتخلق خلال ذلك أشكالًا تنظيمية قاعدية خلاقة تبدع فيها في ممارسة درجة فائقة من الديمقراطية من أسفل، التي هي الركيزة التي يستند إليها أصحاب المصلحة المشتركة في تجاوز هذه العقبات”.

ويضيف أن هذه التنظيمات، أبدعها العمال وشرائح أوسع من الفقراء في بلدانٍ مثل تشيلي، وعرفت باسم المجالس العمالية خلال الأزمة الثورية 1972-1973، وفي الأرجنتين في الأزمة الاقتصادية عام 2000، وبوليفيا في الفترة من 2000 إلى 2005، وقدَّمت خبراتٍ ثرية في التعبئة الشعبية والديمقراطية من أسفل.

وأخيرا، سواء التفت الجماهير حول الرؤى الإصلاحية أو الراديكالية للتغيير، لكي تستعيد قدرتها على تسيير حياتها واتخاذ القرارات التي تعبر عنها، في مواجهة سلطة الاحتكارات الرأسمالية الكبيرة المتحالفة مع الصهيونية، فإن المهمة الأولى، حاليا، لمعسكر أنصار المقاومة، هو مواصلة الضغط على الحكام لوقف المجازر الصهيونية فورا، وفي ذات الوقت التصدي لزحف اليمين الفاشي قبل فوات الأوان.

المصدر : الجزيرة مباشر