وانتصر الدم الفلسطيني في معركة الضمير العالمي

د. طه حسين

في جميع العلوم الإنسانية، ذات الصلة بالإعلام كمبحث علمي مستقل أو ظاهرة اجتماعية، تحتل عملية تغيير السلوك الجمعي، مكانة متقدمة على قائمة الأهداف وراء الرسالة الإعلامية.

وما يقع من خلاف بين المفكرين والفلاسفة، من ابن خلدون إلى ماركس، وصولًا إلى حملة مشاعل الاتجاهات الحداثية، على غرار جان بودريار وفوكوياما، لا يعدو إلا أن يكون تفاوتًا طفيفًا بشأن تقدير آثار الإعلام، فمن قائل بقدرته على تغيير بوصلة المجتمع كليًا، إلى آخر يقترح عدم التعويل عليه كثيرًا، أو عدم التعويل عليه وحده.

في كل الحالات، تتفق الدراسات أن تغيير اتجاهات المجتمع، من حيث كونه يتألف من رذاذ بشري متناثر، يتطلب أولًا صناعة وعي جمعي جديد، ما يجعل عبارة “في البدء كان الوعي”، عالية الاحترام في سياقات حركة المجتمعات التاريخية.

على أن نجاح الرسالة الإعلامية، في صناعة الوعي، لا يتأتى إلا غِلابًا، فهناك عوامل ينبغي توافرها، منها أنه كلما تكررت الرسالة وتنوعت وسائلها، كلما حققت نجاحًا، كما يجب أن تكون الرسائل واضحة، يفهمها المتلقي على اختلاف حظه من الثقافة، فلا يستقبح المثقف دونيتها، ولا يستصعب الأميُّ رموزها، والمفترض من قبل ومن بعد، أن تدعم قضية أخلاقية تحظى بالتوافق.

الهزيمة العربية في حرب الوعي

في القضية الفلسطينية لم تكمن الأزمة أبدًا في الأخلاقية؛ إن حقًا لا يُنازع لأي شعب أن يقاوم استعماره، فكيف إذا كان استيطانًا استئصاليًا يقترف جرائم تطهير عرقي؟ تجاوزت محارق هتلر وحشيةً، وغزوات البرابرة همجيةً، في القرن الواحد والعشرين.

القضية عادلة ولا صعوبة في استقطاب ضمير البشرية لها، لكن كيف تصل إليه؟

كتابات المفكرين والباحثين والصحفيين العرب المخلصين، بشأن حتمية خوض حرب الوعي، لإسقاط الأساطير الصهيونية غربيًا، تكفي لتغطية سطح الكرة الأرضية، ربما أكثر من مرة، وهناك عشرات التوصيات الواجب على الحكومات تنفيذها، لكن الحاكم العربي لا يقرأ، وإذا قرأ فالأرجح أن يأمر باعتقال الكاتب.

هكذا هي العلاقة بين المثقف والسياسي في واقعنا القمعي، لذلك فإن هزيمتنا، منذ النكبة حتى ما قبل طوفان الأقصى “بثانية واحدة” ليست مفاجئة.

الأمة الممتدة من المحيط إلى الخليج، فشلت في تعريف البشرية بأعدل القضايا وأشرفها وأكثرها إنسانية.. هزمها عدوها الذي نجح في ترويج سرديته رغم تهافتها.

المليارات العربية التي شيدت ناطحات السحاب و”الملاهي”، وللحكام قصورًا ومنتجعات، لم تتصدَ لمخاطبة الآخر.

وعلى النقيض، هرعت المنظمة الصهيونية منذ مؤتمر بازل 1897، إلى احتلال المساحة الإعلامية الفارغة، فنشطت الرأسمالية اليهودية، في الاستحواذ على صحف ومؤسسات بحثية عملاقة، والمعلوم من حجم الاهتمام بنشر السردية الصهيونية، يغني عن جلب الأمثلة.

إسرائيل تأسست في الأصل على خرافة المظلومية، وكذبة أن فلسطين أرض بغير شعب، كما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي اليساري، إيلان بابيه، في كتابه المرجعي “التطهير العرقي في فلسطين”.

كيف انتصرت الأكذوبة وخسرت الحقيقة؟

إنه التوغل الإعلامي الصهيوني الذي لم يقتصر على الغرب، ولم ير أن مجاله بريطانيا صاحبة وعد بلفور، والولايات المتحدة القوة الأعظم بعد الحرب العالمية الثانية وكفى، بل امتد شرقًا وغربًا، حتى أنه لم يستثنِ مجتمعات عربية.

طه حسين يكتب بمجلة صهيونية

في دراستها المهمة “الصحافة الصهيونية في مصر”، ترصد الدكتورة عواطف عبد الرحمن، الآليات التي اتبعتها الحركة الصهيونية، عن طريق العائلات البرجوازية اليهودية، للترويج للمشروع الصهيوني بين المصريين، بالتوازي مع استقطاب المتحمسين اليهود للتجنيد أو الهجرة إلى فلسطين.

ووفق الدراسة التي حللَّت مضامين الخطاب الصهيوني في الصحافة المصرية، بدءًا من عام 1896، فإن اليهود استغلوا في بدء حراكهم الإعلامي، منابر إعلامية مصرية، وأبرزها صحيفة المقطم”، ذات العلاقات الحميمة بالاستعمار الإنجليزي، والتي كانت توفر مساحاتها بسخاء لمقالات الكتَّاب الصهاينة، ورويدًا رويدًا شرعت العائلات من يهود “الإشكناز” الغربيين على وجه التحديد، في تدشين الصحف بالقاهرة والإسكندرية.

كانت لكل صحيفة لغة خطاب متمايزة، فصحيفة “إسرائيل” التي صدرت عام 1920، مررت أفكارها عبر خطاب لا يختلق عداوة بين ما هو قومي وما هو طائفي، في حين كانت صحيفة “الاتحاد الإسرائيلي” أكثر خشونةً ومباشرةً، إذ لم تستنكف عن طرح رؤاها بشأن حق اليهود “المضطهدين”، في تأسيس وطنهم القومي.

بل إن نطاقات الصهيونية قفزت فوق صحافة الشؤون السياسية والاجتماعية والعقائدية، فأسست مجلة “الكاتب المصري” ذات الصبغة الأدبية سنة 1945، واستقدمت الدكتور طه حسين شخصيًا لرئاسة تحريرها، ومعه كُتَّاب من نخبة النخبة في ذاك الزمان، كالعقاد ويحيى حقي ومحمد حسين هيكل، وإلى جوارهم عديد من الكتاب والمفكرين والأدباء اليهود.

نعم.. كان هؤلاء الرواد يكتبون في مجلة صهيونية.. صدّق أو لا تُصدّق.

لذلك لم يكن غريبًا أن المجلة امتنعت عن نشر أخبار النكبة، واكتفت بمقالات تدعو إلى سلام البشرية، في الوقت الذي كانت فيه العصابات الصهيونية تريق دماء الأشقاء أنهارًا.

صحيحٌ أن “الكاتب المصري” لم تكن حالة صحفية مهيمنة، فإلى جوارها تبنت الصحافة الوطنية خطابًا مقاومًا، وإن كان حماسيًا أكثر منه عقلانيًا، لكن مفارقة وجود صحافة صهيونية بهذه الكثافة، في مصر تحديدًا؛ العدو الإقليمي الأخطر على الدولة العبرية الناشئة، تكشف عن منسوب الاهتمام الذي أولته الصهيونية لترويج سردية المظلومية المهترئة.

افتضاح عصابات الجريمة الإسرائيلية

على مدى عمر الاحتلال، لم تكتف إسرائيل بالتفوق عسكريًا، بل ركزت أيضًا على حرب الوعي، وأنفقت المليارات بسخاء، فإذا بكل ما أحرزته منذ أكثر من 75 عامًا، يتبدد في ومضة زمنية، إذ أبصر الضمير الإنساني، بعد “الطوفان” ملامح خديعته من قبل عصابة إرهابية، فاستقبح المخادعين وانتفض ضدهم.

الوعي الذي نشأ عابرًا للحدود والأعراق والإثنيات، بعد طوفان الأقصى فأسقط السردية الإسرائيلية، هزيمة فادحة للمشروع الصهيوني، ولذلك جُن جنون الاحتلال إثر التغطيات الصحفية لجرائمه، فاستهدف الصحفيين استهدافًا إجراميًا مباشرًا، زاد من انكشافه عوضًا عن ستره.

واستمالة شرفاء العالم، من رموز القوى الناعمة، ومنهم يهود، وكذلك الحركات الطلابية الفوّارة، تشكل مكتسبات للقضية الفلسطينية، ستحدث تغييرًا حتميًا وجذريًا في مسارات حركة التاريخ، حتى وإن كان تراكميًا وعلى مهل.

بعيدًا عن التهويم في الخطابات العنترية، والبلاغة الاصطلاحية، يبقى الواقع المجرد أن هناك معجزة، تتلخص في أن الشعب الفلسطيني ينتصر بدمائه، على دولة ترقد فوق بحيرة نووية.

المصدر : الجزيرة مباشر