النقابات المهنية هل تعوض ضمور الأحزاب المصرية؟

نقابة الصحفيين المصريين ومظاهرات على سلالمها ضد العدوان الإسرائيلي على غزة (الأناضول)

انتخابات وتحركات وتغييرات (جزئية) شهدتها بعض النقابات المهنية الكبرى في مصر خلال الفترة الماضية، كان أحدثها في نقابة أطباء الأسنان التي جرت انتخاباتها النصفية يوم الجمعة الماضي، والتي فاز فيها تيار الاستقلال (المعبّر عن اليسار وحلفائه) بغالبية أعضاء مجلس النقابة العامة، وغالبية مجالس المحافظات، في حين فاز الموالون للسلطة بمقعد النقيب وأقلية من المجلس. وقبل أطباء الأسنان جرت انتخابات نقابة المحامين في 23 من مارس/آذار الماضي، وكانت مفاجأتها هي خسارة المرشح القريب من السلطة سامح عاشور. وقبل أكثر من عام، فاز اليساري خالد البلشي بموقع نقيب الصحفيين ومعه عدد من أعضاء مجلس النقابة، كما سبقه اليساري طارق النبراوي إلى الفوز بموقع نقيب المهندسين.

النقابات المهنية في مصر (25 نقابة) كما في غيرها من الدول هي التعبير المؤسسي الحقيقي عن الطبقة الوسطى من أصحاب الياقات البيضاء، التي هي -بدورها- رمانة الميزان في أي مجتمع، تحفظ توازنه، وتقوده نحو التغيير والتطور، وهي تشترك في هذه المهمة مع مؤسسات المجتمع الأهلي الأخرى.

استقلال دستوري نظري

تتمتع النقابات المهنية (دستوريا) بالاستقلال والحرية، فهي ليست مؤسسة من مؤسسات الدولة التنفيذية، وهي كذلك ليست حزبا سياسيا مواليا أو معارضا، فالمادة 76 من الدستور الحالي تنص على “إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون. وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات إلخ”. والمادة 77 تؤكد ما سبق وتزيد عليه “ينظم القانون إنشاء النقابات المهنية وإدارتها على أساس ديمقراطي، ويكفل استقلالها إلخ”.

المادتان الدستوريتان السابقتان توضحان أيضا حدود دور ومهام النقابات عموما والمهنية خصوصا، فهي تسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم وحماية مصالحهم، وإضافة إلى ذلك فإن قوانين النقابات تمنحها الحق في الاشتباك مع قضايا الشأن العام الداخلية والخارجية تعبيرا عن رأي أعضائها، لكن النقابات كما ذكرنا ليست أحزابا منافسة على السلطة، وهذا ما يخفف (ولا يلغي تماما) مخاوف الأنظمة الاستبدادية منها.

بين المعارضة والموالاة

استخدام الحقوق الدستورية والقانونية التي أتاحت مساحات واسعة من الحركة للنقابات يختلف حسب طبيعة المجالس المنتخبة، فحين يكون أعضاء تلك المجالس أو غالبيتهم من أصحاب الآراء والمواقف المستقلة أو المعارضة فإنهم يستخدمون تلك الحقوق في حدها الأقصى، والعكس حين يكونون من الموالين للسلطة فإنهم يجمدونها إرضاء للسلطة، والنموذج الأبرز لممارسة تلك الحقوق في الوقت الحالي هي نقابة الصحفيين التي اختلف أداؤها بشكل كامل أو لنقل 180 درجة بعد انتخاب البلشي نقيبا لها، ومعه غالبية داعمة في المجلس، بعد أن ظلت تحت سيطرة موالين للسلطة طيلة دورتين سابقتين تحولت فيهما النقابة إلى كهف أشباح، توشحها أكفان، وتغلق أبوابها متاريس حديدية بهدف تحجيم دخول الصحفيين إليها، ومنع أي وقفات على سلالمها الشهيرة، التي استعادت زخمها كما وضح خلال الأيام الماضية مع إزالة الأغطية والأخشاب من واجهات النقابة وأبوابها، وعادت الروح إلى قاعاتها واستراحاتها، وعادت لتحتضن الفعاليات المختلفة كما كانت قبل الثورة وبعدها.

وإلى جانب الصحفيين، فإن نقابة المهندسين تحركت للانفكاك من هيمنة الحزب الحاكم (مستقبل وطن) الذي يتولى بعض منتسبيه مواقع عليا في مجلس النقابة وهيئة مكتبها، وقد سعوا لعقد جمعية عمومية لسحب الثقة وإطاحة النقيب طارق النبرواي في مارس من العام الماضي، لكن المفاجأة أن المهندسين الذين جرى حشدهم للقيام بتلك المهمة جددوا الثقة في النقيب، وهو ما رد عليه المنتسبون للحزب الحاكم بإثارة الشغب وتحطيم بعض صناديق الاقتراع إلخ.

خسارة قائمة السلطة

وحتى تتجنب السلطة فوز شخصيات معارضة أو مستقلة كما حدث في نقابتَي الصحفيين والمهندسين فإنها سعت مبكرا لهندسة انتخابات نقابة أطباء الأسنان بما يضمن فوز مرشحيها فقط، وذلك منذ لحظة فتح باب الترشح في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مستخدمة العصا والجزرة للوصول إلى النتيجة المطلوبة، ولكنها مع ذلك حققت أقل من نصف انتصار بفوز مرشحها لمنصب النقيب، مع أقلية من أعضاء المجلس وأقلية في نقابات المحافظات، وقد تسبب التدخل السافر لأجهزة السلطة في احتشاد غير مسبوق للناخبين الذين بلغ عددهم 10 آلاف و470 صوتا (حصد مرشح السلطة إيهاب هيكل منها 4 آلاف و903 أصوات، بينما حصل منافسه محمد بدوي مرشح تيار الاستقلال على 4 آلاف و245 صوتا).

يبدو المشهد النقابي في تطور حثيث، وهو ما يقلق السلطة التي نجحت في إغلاق المجال العام، وحاصرت الأحزاب السياسية في مقارها، وتركتها أمام خيار وحيد، هو الدخول في تنسيقات ترتبها الأجهزة الأمنية لنيل حصة من النواب في غرفتَي البرلمان، وهو ما نزع دسم تلك الأحزاب، وتسبب في تجمدها، وانصراف المواطنين عنها، وهنا فمن الممكن أن تعوض النقابات المهنية غياب أو تغييب الأحزاب، وتجمدها وضمورها، في تكرار لحقبة التسعينيات التي علا فيها نجم النقابات على الأحزاب، لسببين: أولهما الحصار الذي تعرضت له الأحزاب من سلطة مبارك مما دفعها إلى التقوقع في مقارها، والسبب الثاني سيطرة الإخوان على غالبية مجالس النقابات المهنية التي عَدّوها بديلا حزبيا لهم، بعد حرمانهم من تأسيس حزب، وقد كانت النقابات هي قاطرة العمل العام، وصاحبة المواقف القوية في القضايا الوطنية والقومية والخارجية إضافة إلى شؤون المهنة وحماية الأعضاء، كما كانت هي صاحبة المبادرات التي تدعو الأحزاب وغيرها من مؤسسات المجتمع إليها.

المصدر : الجزيرة مباشر