تقزيم الدولة المصرية.. أو الدولة البديلة!

كان مفاجأة لكثيرين أن تكون البديل، لضابط الشرطة السابق والنائب بمجلس النواب المصري سعد الجمال، كريمته، فقد مات الرجل، لتحل الابنة محل والدها، في إجراء غير مسبوق في طول وعرض تاريخ الحياة النيابية بمصر!

وكانت واقعة سابقة قبل أسابيع قد جرت لم ينتبه لها الناس، عندما مات نائب آخر اسمه فوزي الفتي، وكانت ابنته جاهزة لتقسم اليمين الدستوري نائبة بالبرلمان القائم، لكن الواقعة الثانية –ولن تكون الأخيرة– لفتت الانتباه إلى هذه الواقعة، وفتحت الباب، على هذه السياسة الجديدة في شغل مواقع البرلمان، بل وفي تشكيل البرلمان المصري ذاته بغرفتيه؛ مجلس الشيوخ ومجلس النواب!

الجديد في هذه الانتخابات، هو أن التوريث تم في حياة الوارث

بادئ ذي بدء فقد عرف المصريون سياسة توريث المواقع بالبرلمان، عندما كان الريف المصري يعتمد سياسة العائلات النيابية، فعند وفاة الأب يحل محله لشغل الموقع أحد الأشخاص من سلالته، أو من فرع العائلة، وإذا كان التنافس يحدث في الأحوال العادية التي تجرى فيها الانتخابات، فإن الوفاة وطبيعتها لاسيما في الريف المصري تحول دون منافسة الوريث، وهو أمر لم يعد قائماً الآن، وفي ربع القرن الأخير، بل لم تعد كثير من العائلات البرلمانية بالوراثة، تحتفظ بهذه المكانة التاريخية!

بيد أن الجديد في هذه الانتخابات، هو أن التوريث تم في حياة الوارث، ومن خلال نظام الانتخابات سيئة السمعة، حيث اختيار أسوأ أنساق الانتخابات بالقائمة، وهو ما يعرف بالقائمة المغلقة، عندما يكون لكل مرشح فيها آخر احتياطي، فإذا خلا الموقع بوفاته أو عجزه، فإن الأسرة لم تخسر كثيراً، ولم يكن ما دفعته لشراء المقعد قد ذهب سدى!

فعملية شراء المقاعد البرلمانية لم تكن سراً في هذا البرلمان، حيث دُفع في المقعد الواحد مبالغ تتراوح بين خمسة ملايين (الحد الأدنى في المقاعد الخاصة بالمرأة)، وتصل إلى عشرين مليون جنيه عداً ونقداً، وإن كان المتوسط هو عشرة ملايين جنيه. وليس بالضرورة أن يدفع أحدهم “المعلوم”، ليضمن الترشيح على قوائم السلطة مضمونة النجاح، فهناك من دفعوا ولم ينالوا هذا الشرف، وعندما طالبوا باسترداد ما دفعوه كان الرد إنها تبرعات لا تستبدل ولا تسترد!

ولم يعد هذا سراً لأن دوائر قريبة من أهل الحكم فضحته، بل إن حزب الأنابيب الذي يتولى الزعامة في الحياة السياسية اعترف بذلك، عندما قال أحد المرشحين على المقعد الفردي الذي لم يحالفه الحظ أنه دفع تسعة ملايين جنيه مقابل فوزه، فقال الحزب إن المرشح كان سبباً في خسارة الحزب للمقعد، ليكشف هذا أن شراء المقاعد البرلمانية لم يكن خاصاً فقط بالترشيح على القوائم، وإنما امتد للمقعد الفردي!

ومما قاله الحزب إياه في معرض رده على هذا الغاضب بعد سقوطه، أنه أخطأ عندما اعتمد مرشحاً له دون طلب التقارير الأمنية حوله، التي تؤكد أنه يفتقد للشعبية التي تؤهله للنجاح، لنكون هنا أمام ثالثة الأثافي!

فإذا كان البرلمان السابق (2015- 2021) عُرف بأنه برلمان الأجهزة الأمنية لأنها تبارت فيما بينها لتكون عند حسن ظن من أدار هذه العملية، فإن البرلمان الحالي، هو برلمان الشخص الواحد الذي لم يطلب مساعدة أحد سوى عدد قليل من رجاله هو، واعتمد سياسة بيع المقاعد، لدرجة أنه يتردد أن مجموع ما تم جمعه في هذه الانتخابات هو مائة مليار جنيه، وإذا قدمنا حسن النية فلنا أن نسأل إن كانت هذه التبرعات دخلت حسابات الحزب، التي تخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، كما ينص قانون الأحزاب السياسية، أم لا؟!

واعتماد ترشيح “صاحب القسمة والنصيب” بدون طلب التقارير الأمنية، كان سبباً في ترشيح أشخاص يعملون في مهن غير قانونية، ونشاطهم المعلن هو هذه الأعمال، وذلك مخالفة للتقاليد بأن من يعملون في أنشطة مخالفة للقانون كتجارة الأثار ونحو ذلك، فإن لهم نشاطاً آخر معلن!

وعندما نطالع شريحة المعينين في المجلسين (الشيوخ والنواب) سنقف على التعينات من العائلة الواحدة تماما كما كان الترشيح من العائلة الواحدة

وليس هذا هو الموضوع، فقد كان المطلوب تشكيل برلمان من خارج السياسة، ولأن الحالة أوجبت بيع المقاعد، فكان لابد أن تستمر “ملكية” كرسي البرلمان لأن الشراء لدورة كاملة، ولأن أحداً لا يعرف الغيب، فيبغي أن يكون المرشح الجالس على دكة الاحتياطي من صُلب من دفع الثمن، أو من أقرباء الدرجة الأولى، ليكون الكرسي في حكم المنقولات، التي تنتقل للورثة وبدون انتخابات جديدة!

وقد رصد صديقنا الصحفي والباحث محمد مرسي عدداً كبيراً من هذا الاحتياط في القوائم المختلفة، ما بين البديل من الصلب فيكون الابن أو الابنة، والبديل الشقيق سواء الأخ أو الأخت، وقد يكون البديل للمرشحة هو الابن أو الابنة، وللزوجة الزوج أو العكس، لكن هذا يستدعي من يعرف شجرة العائلة لعدم تشابه الأسماء بطبيعة الحال!

وعندما نطالع شريحة المعينين في المجلسين (الشيوخ والنواب) سنقف على التعينات من العائلة الواحدة تماما كما كان الترشيح من العائلة الواحدة فالأخ عضو في مجلس النواب، وشقيقه عضو في مجلس الشيوخ بضمان النجاح عبر الترشيح في القوائم المحظوظة، ومن صحيفة “الوطن” عين رئيس مجلس الإدارة كما عين رئيس التحرير، لتكون هناك شريحة كاملة تستفيد بالكثير من عطاء السلطة، حتى أصيب الآخرون من جبهة المولاة باليأس والقنوط، ولسان حالهم يدعو إلى إعادة توزيع الثروة والسلطة بدلاً من تركزها في عدد قليل، فهذا رئيس مؤسسة صحفية، وعضو في البرلمان، ومسؤول بقنوات السلطة، كل هذا بينما من ينحازون لهذه السلطة قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم، يسألون الله ثمن النشوق!

إنها دولة “على الضيق”، في ظل حكم الجنرال، الذي بدا من حديثه المكرر حتى الملل عن الدولة والحفاظ عليها كأنه يدشن لمرحلة تحويلها إلى صنم يعبد، فرفضه هو عمل يستهدف هدم الدولة، والخروج عليه هو خروج على الدولة، فهو الوحيد الذي يعرف معنى الدولة بعد أن ظل نصف قرن يدرسها، وبينما كان أقرانه يلعبون “كرة شراب” في الشارع، كان هو مهموم بالدولة ودراستها والإلمام الكافي بها، ثم تكون هذه النتيجة بتقزيم الدولة، توشك أن تصبح في حجم عقلة الإصبع، ليتسنى له فرض قبضته عليها!

واضح أنه كان يقرأ المنهج الخطأ.

المصدر : الجزيرة مباشر