الشعب اليهودي.. والشعب الفلسطيني

حاخام يتصدر مظاهرات اليهود في نيويورك احتجاجًا على قصف المستشفى المعمداني في غزة (الأناضول)

 

اخترعت الصهيونية العالمية ما يسمى “الشعب اليهودي” مستندة إلى مجموعة أساطير وأكاذيب، ولأجل تحقيق هذه الأكذوبة كان لا بدَّ لشعب أن يموت، ووقع الاختيار على الأرض التي وُلدت عليها الديانة اليهودية التي تحوَّل كتابها من كتاب شرائع إلى كتاب تاريخ يروي نشوء “أمة اليهود” علمًا بأنه لا أحد يعرف بدقة: متى كُتبت التوراة؟ ومن الذي كتبها؟ وما الطريق الذي سلكه اليهود المطرودون من مصر؟ على حدّ تعبير المؤرخ “شلومو ساند” أستاذ مادة التاريخ في جامعة تل أبيب. يتساءل ساند في كتابه (اختراع الشعب اليهودي) قائلًا: هل تمّ فعلًا نفي سكان “مملكة يهودا” بعد تدمير الهيكل أم إن ذلك لا يعدو كونه مجرد أسطورة مسيحية شقَّت طريقها إلى التراث اليهودي الذي جيَّرها بعد ذلك لمصلحته؟

الدم مقابل إثبات الأسطورة

وقد احتاج العالم إلى نحو قرن ليفكك ويحلل هذه السردية التي استطاع الإعلام العالمي ترسيخها لتغدو وكأنها إحدى البدهيات التي لا تقبل النقاش، وتطلَّب الأمر ما يقرب من سبعين سنة من الحفر الأركيولوجي (علم الآثار) حول المسجد الأقصى وأسفله وفي عموم فلسطين، وبأحدث التقنيات العلمية لكنْ من دون جدوى. جرى خلال تلك السنوات الكثير من الدماء بعد جريمة التهجير الأولى سنة 1948، وحدثت مئات المجازر بحقّ هذا الشعب، ولا تزال مستمرة إلى ساعتنا هذه، وصُرفت خلال تلك السنوات مليارات الدولارات دعمًا للصهيونية، كما تمّ شراء الكثير من الذمم ممن يُفترض بهم أن يدافعوا عن هذا الشعب، وحيكت عشرات المؤامرات ضدّه، وتاجر باسمه الكثيرون، وأيضًا من دون جدوى. ورغم كلّ ذلك فإن بني صهيون ما زالوا يحلمون بأرض بلا شعب، يساعدهم على تنفيذ هذا الحلم كلّ القوى التي أسهمت في صناعة ما تسمى (دولة إسرائيل). ورغم اعتراف العالم العربي والغربي بهذه الدولة، ورغم عقد اتفاقيات السلام معها، ومحاولات إدماجها ضمن محيطها العربي فإنّ اليهود كما ذكرهم القرآن الكريم {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 100)

الحل السحري

استطاعت الصهيونية العالمية تقسيم الشعب الفلسطيني، وقامت بكلّ ما تستطيع من أجل تهجينه وتدجينه، فهناك فلسطينيو (48)، وفلسطينيو الضفة، وآخرون في القطاع، وآخرون في الشتات. وعملت ما بوسعها من أجل إرساء الواقع المفروض، وعبر عملائها تمَّ طردهم من لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، وتمَّ طردهم من مخيم اليرموك في دمشق بداية الثورة السورية، ووصل الأمر إلى حدّ الشعور بأنّ القضية الفلسطينية انتهت، وبدأت عجلة التطبيع تتسارع، واطمأنت الحكومات الإسرائيلية إلى هذا الواقع. فمنظمة التحرير بقيادة محمود عباس (أبو مازن) وصلت إلى مرحلة من الضعف لم يسبق لها مثيل، وبقيت الغصة الوحيدة هي غزة بما فيها من بشر يبلغ تعدادهم نحو 2.3 مليون، وهذه من السهل على إسرائيل التخلص منها الآن، فقتلهم وتشريدهم على الطريقة الأسدية أصبح ميسورًا، فكما تواطأ العالمان الغربي والعربي مع بشار، فمن باب أولى أن يسكت عن ما يمكن أن تقوم به إسرائيل.

رغم كلّ ما سبق فإن الشعب الفلسطيني بقي يقاوم، تارة بالسلاح أو بالحجر، وأخرى بالقلم، متسلحًا بإيمانه الراسخ بفكرة التشبث بالأرض بعد أن عانى ما عاناه في هجرته الأولى سنة “1948”، ومتمسكًا أيضًا بما هو راسخ في القانون الإسرائيلي ذاته (حق العودة) رغم اختلاف النيات. واستطاع هذا الشعب أن يخرج مثل طائر الفينيق من رماده.

عودة الروح

وبغضّ النظر عن كلّ المواقف الأيديولوجية، ومواقف البعض من حماس، فالنظرة الموضوعية لما يجري لا ينبغي أن تنسينا أنّنا نتعامل مع شعب واقع تحت الاحتلال من حقّه وفق كلّ الأعراف الدينية والدولية أن يدافع عن أرضه بالطريقة التي يراها مناسبة، ويجب ألا ننسى أنّه في الانتفاضتين السابقتين كان سلميًّا، وقوبل بما يُقابل به اليوم، وتدمير جنين مثال واضح، فالادّعاء أن فصيلًا عسكريًّا ورّط الشعب الفلسطيني ادّعاء باطل، وبدلًا من أن نعدد السلبيات والخسائر يمكننا بنظرة بسيطة أن نوضح بعض المكاسب للقضية الفلسطينية تحديدًا، فهذه هي المرّة الأولى في تاريخ القضية التي يبدأ فيها الفلسطيني الحرب، وهي المرة الأولى التي يجتاز فيها الفلسطيني الحدود المرسومة بالإسمنت المسلّح، ويضرب بها أسطورة الجيش الذي لا يُقهر مُوقِعًا نحو 1500 قتيل صهيوني، وآسرًا أكثر من مئتي مقاتل من بينهم خمسون ضابطًا وخمسون جنديًّا، ومُوقِعًا أعنف هزيمة نفسية مُنيت بها إسرائيل منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولأول مرّة يتمّ إخلاء مستوطنتي عسقلان وسديروت، والأهم من هذا كلّه عودة الروح الفلسطينية إلى الصدارة بفضل أحرار العالم، ورغم قوة المكنة الإعلامية العالمية، وتضليلها الممنهج، فقد ظهرت اليوم صورة إسرائيل البشعة خاصة بعد قصفها المستشفى الأهلي المعمداني.

ماذا بعد؟ سؤال غاية في الأهمية، لكن على العالم وعلى إسرائيل تحديدًا إدراك أنه لا حلّ من دون عدالة، ولا حلّ إلا باعتراف رسمي كامل متكامل بحقّ الفلسطيني في دولة مستقلة ذات سيادة. أما عن الأحلام التوراتية، فيمكن أن تتحقق دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل عبر إبادة شعوب هذه المنطقة بالأسلحة النووية حصرًا، وبمساندة كاملة متكاملة من جيوش الغرب.

المصدر : الجزيرة مباشر