هل وقع الجيش الإسرائيلي بالفخ؟ وما خياراته في غزة؟

الجيش الإسرائيلي في محاولة للاجتياح البري

 

بات من المعلوم، وبعد مرور 72 ساعة على دخول الجيش الإسرائيلي إلى غزة من ثلاثة محاور في محاولة لتطويقها، أن الثمن سيكون كبيرًا، ليس هذا فحسب، بل ولن يتمكن جيش الاحتلال من تحقيق الأهداف المعلنة بأي شكل من الأشكال، لأنها تبدو شبه مستحيلة، وغير ممكنة على الإطلاق مع هذا الحجم المرعب من النيران التي يتلقاها الجيش من المقاومة الفلسطينية في غزة. المعلومات المعلنة التي وصلت باعتراف الجيش حتى اللحظة أن هناك نحو 30 قتيلًا بين ضباطه وجنوده هنا في غزة ونحو 300 آخرين جرحى تم نقلهم بمروحيات للعلاج في مستشفيات الداخل المحتل، وأن معارك ضارية وتكتيكات عسكرية غير معهودة يواجهونها، بل ولم يتمكنوا من التقدم وفقًا لمراقبين سوى بضع مئات من الأمتار.

يعترف ضباط كبار من جيش الاحتياط الذين خدموا في غزة سابقًا ويعرفونها معرفة جيدة، أن مستوى القتال لمقاتلي القسام أعلى بكثير مما عهدوه في السابق، بينما يعتقدون جازمين أن حماس أعدت خطة دفاعية مسبقة للتعامل مع هذا السيناريو، وبالتالي فهذا يعني أن الدخول البري للجيش وغطاءه الناري الكثيف من الطائرات الحربية ومحاولة تحقيق أهدافه لن يؤتي ثماره، وأن مرحلة الانهيار والانكسار لهؤلاء المقاتلين بعيدة المنال في هذه المرحلة، وفقًا لما أوردته صحيفة معاريف العبرية.

 المصيدة

إذَن فجيش الاحتلال تورط بالدخول بريًّا إلى غزة، وفي حال كانت لدى فصائل المقاومة بالفعل خطة مسبقة لسيناريو الدخول البري، فهذا يعني أن الجيش وقع في مصيدة جرى إعدادها قبل السابع من أكتوبر الماضي، خطة تنص على استدراج الجيش للدخول بريًّا إلى غزة، وتحديدًا لتلك المناطق والمحاور التي يعتقد أنه يمكنه التقدم فيها، والتي تقدم منها بالفعل وحاول التقدم من خلالها في معارك سابقة، وتأتي بالضرورة مناطق لا توجد فيها كثافة سكانية ويمكن للطيران تمشيطها قبل الاجتياح البري، كما أنها المناطق الوحيدة التي يمكنه من خلالها تطويق غزة والشعور بالتفوق جغرافيًّا على الخصم، وهي المحاور الثلاثة التي دخل منها؛ الجنوب الشرقي لغزة، الشمال الغربي، وشمال شرقي القطاع وتحديدًا بلدة بيت حانون، في محاولة لاجتيازها وتطويق جباليا وبيت لاهيا بوصفها أكثر المناطق كثافة سكانية في الشمال، وهذا ما حصل بالفعل، ورغم أن قادة هذا الجيش حاولوا التمويه وتسمية الدخول البري بمسميات مختلفة في محاولة منه لعدم الانجراف وراء الحملة البرية، والتمكن من الانسحاب إن واجه عدوًّا شرسًا، فإنه اضطر في النهاية إلى الاعتراف بأنه يسعى لتطويق غزة.

 تكتيك المقاومة

في الأيام الأولى لمحاولات دخوله البري، ومن خلال جولات استطلاعية على أكثر من محور مختلف، وتعمده الاستطلاع على محاور في جنوب غزة، وتحديدًا محور شرق البريج، شرق خان يونس وشرق رفح، بل والواجهة البحرية في غرب رفح، واجه قوة نارية كبيرة، أرغمته على التراجع، أما في المحاور التي دخل منها بالفعل فقد واجه قوة نارية متوسطة في البداية،  لكن في محاولاته التالية التي كان متوقعًا دخوله منها، لم يتلق قوة نارية كبيرة، بل بضع زخات من أسلحة آلية خفيفة، أشعرته بأنه يستطيع التقدم، ولكي يتلافى العبوات المزروعة مسبقًا والكمائن، كان الطيران الحربي قد أعد له طريقًا قبل توغله بقصفه عشرات البيوت والتجمعات السكنية التي يمكن لدباباته وآلياته التقدم من خلالها، وهو أسلوب معهود ومتعارف عليه من قِبل هذا الجيش، وهذا ما حصل، تقدم الجيش إلى أقرب منطقة تكون متقدمة باتجاه الغابة الأسمنتية في غزة، ووقف بالقرب من حي الزيتون شرقًا، وبيت حانون شمالًا، وعلى مشارف حي الشيخ رضوان غربًا، وهذا يعني أمرًا واحدًا لدى مقاتلي غزة الذين سارعوا إلى تفعيل الخطة المعدَّة مسبقًا والقائمة على منطق واحد “وقع الجيش في المصيدة”.

اليومان التاليان لهذا التقدم حملا عنوانًا واحدًا على لسان قادة المقاومة ومقاتليهم “لن يعود أحد ممن دخلوا غزة عنوة حيًّا”، وهي عقيدة قتالية واستراتيجية لدى المقاومة جرى ترسيخها خلال العقدين الماضيين منذ انسحاب الجيش هربًا من غزة في عام 2005. في هذين العقدين، وُضعت عشرات الخطط لاستدراج الجيش، لكنْ وتحديدًا بعد عدوان 2014 الذي استمر نحو شهرين، وبعد محاولته تنفيذ مخطط “هنيبعل” إثر اختطاف المقاومة جنديًّا وضابطًا شرق حي التفاح وشرق رفح، ودخوله البري بطريقة غير مدروسة يظن فيها غزة إحدى مدن الضفة التي اعتاد اجتياحها، واجهوا كمائن فتاكة قُتل فيها العشرات، وجرى إخفاء ما حصل من قِبل قيادة الجيش والانسحاب الفوري من غزة، وقد ظهرت بعد سنوات على الإعلام إشكالية طرحها بعض الجنود الذين لا يزالون يتلقون الدعم النفسي معترفين بأنه جرى استدراجهم إلى الجحيم، وهو ما بات يُعرف لدى مقاتلي غزة بأن هذه الأرض جحيم الصهاينة، وهي أرض محرَّمة عليهم، ولا ينبغي الاقتراب منها. لكن ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لا يمكن الرد عليه أو تنفيذ أهداف قادة هذا الكيان إلا من خلال الاجتياح البري لغزة، ومحاولة القضاء على المقاومة من داخلها، وهو ما جعل القيادة العليا تستدعي نحو ثلثي الاحتياط ومئات الآليات والدبابات، وتتجهز لحرب أشبه ما يكون باجتياح دولة، وهي لا تدري أنها في خضم الوقوع في حفرة كبيرة لن تتمكن دبابة “ميركافا” الثقيلة فخر الصناعة الإسرائيلية من الخروج منها إطلاقًا، والحل الوحيد في خضم المعركة الدائرة هو دفنها مكانها حتى لا يتمكن أهل غزة من الاستفادة من حديدها!

 خيارات إسرائيل بعد دخولها البري

يبدو أن هناك من قادة الجيش وخبرائه من استخلص نتيجة واضحة أنه جرى ايقاعهم في مصيدة معدَّة مسبقًا، واستدراجهم للدخول إلى وحل غزة وتحديدًا من هذه المحاور التي دخل منها الجيش، بيد أن الخطة تقتضي التضحية والتقدم وعدم التراجع، وأن أي تراجع الآن سيعني بالضرورة أمرًا واحدًا؛ الهزيمة النكراء، وانتصار هؤلاء المقاتلين على أقوى جيوش المنطقة، لهذا يبدو أن المجازر خلال هذه الأيام، وتحديدًا للبؤر التي يعتقد الاحتلال أن المقاتلين متحصنون فيها، وهي مخيم جباليا والزيتون والشجاعية، ليرتكب مجزرة في حي سكني شديد الاكتظاظ، ويلقي البراميل المتفجرة ويبيد حيًّا سكنيًّا كاملًا، ويقتل نحو 400 فلسطيني معظمهم أطفال ونساء. وفي اليوم التالي، وعلى بُعد عشرات الأمتار من المكان ذاته، يرتكب مذبحة جديدة، ويقصف حيًّا سكنيًّا آخر في منطقة الفالوجة المحاذية جباليا! تتوالى مجازره الواحدة تلو الأخرى، ويعلم المراقبون والخبراء بالشأن الإسرائيلي من العسكريين أن هذه المجازر تعني أن حكومة الحرب محشورة في الزاوية، وأن خسائر الجيش ثقيلة، وهذه الطريقة الوحيدة للانتقام وإلهاء الرأي العام، المزيد من المجازر بحق المدنيين العزل.

لكن ما خيارات العدو في ظل هذه النتائج الأولية المستخلصة؟ وكيف سيتصرف حيال ما يتعرض له من خسائر؟ بينما جنوده وضباطه يُقتلون بوتيرة متسارعة، وآلياته تتعرض لقذائف “الياسين 105” المضادة للدروع ذات الرأسين المتفجرين، وما يخرج من كمين حتى يقع في آخر، إذّن ماذا يفعل في هذه الحالة؟

لدى إسرائيل سيناريوهان اثنان لا ثالث لهما، إمّا أن تتحمل المزيد من الخسائر وتمضي قدمًا في عمليتها البرية، وإمّا أن تنسحب فورًا وتنقذ ما يمكن إنقاذه، لأن الوقت ليس في صالحهم البتة، والتعرض لخسارة مدوية قابل للتحقق في ظل سيطرة المقاومة على الميدان وتحكمها في مجريات الأمور، رغم الطيران الحربي والطائرات المسيّرة التي تعطي أفضلية وغطاءً للجيش، لكن في المقابل، لدى المقاومة الأنفاق المعدَّة والميدان لصالحهم. ولكي ينسحب الجيش فإنه يحتاج إلى غطاء سياسي، من شأنه أن يجعل هذا الانسحاب يأتي في خضم استجابته لحلول سياسية لدى حكومته وليس هربًا من نيران المقاومة.

أمّا إذا استمر في التقدم، فليس أمامه سوى هدف وحيد يحمل صيغة انتحارية، ولكنه يأتي بالصيغة ذاتها التي بدأ الجيش حربه بها، صيغة تدميرية، وهو الهدف الذي تحدّث عنه مرارًا وتكرارًا، وهو محاولة الوصول إلى مستشفى الشفاء تحديدًا، وهو المستشفى الذي يقع في قلب غزة وتحديدًا في غربها، ويدّعي قادة جيش الاحتلال أن قادة حماس يختبؤون فيه، بينما تنفي إدارة المستشفى هذا الادعاء دائمًا. المستشفى يوجد فيه نحو 40 ألف شخص من غزة، وهو عدد كبير جدًّا مقارنة بمساحته، أي أنه يكتظ بالنازحين، إضافة إلى كونه المستشفى الأكبر والوحيد الذي يستوعب عددًا كبيرًا من الجرحى، لهذا سيسعى جيش الاحتلال للوصول إليه وإفراغه من المدنيين ومحاولة تفتيشه لتحقيق شيء من صورة النصر، حتى إن استطاع قادة المقاومة الخروج منه، فسيكتفي بالحصول على صورة نصر ثم ينسحب تدريجيًّا من غزة، وهو بذلك يكون قد حصد ثمار دخوله البري، لكن حتى يتحقق ذلك -وفقًا لآلية تقدّمه- فإنه سيخسر الكثير من ضباطه وجنوده وآلياته، وسيتطلب وقتًا كبيرًا لتحقيق ما يهدف إليه، والوقت ليس في صالحه البتة، وقد استنفد جزءًا كبيرًا منه في قصف غزة وارتكابه المجازر التي أشعلت الرأي العام العالمي، وجعلت الساعة الدبلوماسية الرملية تبدأ بالنفاد، وهذا ما لا يحتمله جيش الاحتلال وحكومة حربه، فالجيش مصمم لخوض حروب قصيرة، سريعة التدمير ومتغيرة الأهداف، والحكومة ترى أنه بمجرد إيقاف إطلاق النار أو إعلان هدنة انسانية، فستسقط الحكومة وقادة الجيش، ولن يستطيعوا العودة إلى حلبة القتال لاستئناف الحرب مجددًا.

المصدر : الجزيرة مباشر