يناير.. ثورة أتلفها هوى أبنائها وتربص أعدائها

ميدان التحرير في يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011 (غيتي)

لم يكن خروج الشعب المصري يوم الـ25 من يناير عام 2011 للتظاهر ضد نظام الرئيس مبارك قد حدد أن هذا اليوم هو ثورة ضد النظام، فالثورات ليست لها أيام محددة، ولا يمكن تحديد موعدها قبل حدوثها، وإنما هي تأتي فجأة؛ نتيجة تراكمات غضب وأزمات واحدة تِلو الأخرى حتى تكون القاضية.

ولكن ما حدث حينها أن هناك دعوة للتظاهر خرجت من النخبة النشطة سياسيا للتعبير عن غضبهم تجاه سياسات قمعية استمرت نحو ثلاثين عاما، ولم يكن موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” واسع الانتشار، كما هو الوضع الحالي، كما أن موقع إكس “تويتر” لم يكن قد وُلد بعدُ، ولم تكن خدمة الإنترنت قد دخلت معظم منازل المصريين، لذا لم تلقَ الدعوة صدًى كبيرا لدى قطاعات واسعة من الشعب.

فرحة الوصول إلى ميدان التحرير

وبفضل الزخم الذي أحدثته الثورة التونسية التي قامت قبلها بأيام قليلة؛ تحمّس الشباب لانتزاع حقوقهم في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وخرج آلاف بالفعل يوم الـ25 من يناير من أماكن مختلفة، كان أهمها مظاهرات ميدان التحرير الذي استطاع الوصول إليه آلاف على نهاية اليوم بعد الفرّ والكَر من أمام هراوات وقنابل الدخان التي كانت تطلقها الشرطة، وعندها شعر الجميع بزهوة الانتصار، وكأن الوصول إلى الميدان هو الهدف في حد ذاته.

وكنت قد قلت لصديق لي إنه لو استطاع 10 آلاف شخص التظاهر في ميدان التحرير لـ3 أيام متصلة لسقط مبارك، لذا لم يَهنأ المتظاهرون بالمكوث في الميدان بعد أن قررت الشرطة فضّ المتظاهرين بخراطيم المياه في عزّ برودة شتاء يناير، ولكن نجاح هذا اليوم على غير المتوقع من الجميع جعل هناك استمرارا للتظاهر لليوم الثاني والثالث؛ ولكن كل مرة تستطيع الشرطة التغلب على المتظاهرين، وتفرقهم باستخدام كل الأساليب.

يوم الثورة العظيم

وجاءت الدعوة إلى جمعة الغضب يوم 28 من يناير عام 2011، ليخرج لأول مرة في التاريخ المصري ملايين من الشعب من جميع المحافظات، متوجهين إلى الميادين، وتكبر كرة الثلج مع اعتداء الشرطة على المتظاهرين بعد صلاة الجمعة؛ ليقوم المتظاهرون من الشباب بصدّ اعتداءات الشرطة، ويخترقوا الحواجز في يوم من أيام الله في الأرض، وليصبح هذا اليوم -من وجهة نظري- من أعظم أيام ثورة يناير.

هذا تاريخ لن ننساه؛ لأننا عشناه لحظة بلحظة، ودقيقة بدقيقة، شاركنا فيه، وحلمنا به، وحلمنا له، وعشنا أحلاما تمنينا تحقيقها، لقد وصلنا في تلك اللحظة إلى أننا كدنا نمسك النجوم بأيدينا، وتمنينا أن يقف بنا الزمن عند تلك اللحظة التي شارك فيها الجميع؛ شباب، وشيوخ، وكهول، نساء وفتيات، كان كل أطياف المجتمع في الشارع ما بين مثقف وأميّ لا يجيد القراءة، ناشطون سياسيون، ومؤدلجون، وشباب لا علاقة له بأي تيار.

في ميدان التحرير وكل ميادين مصر اجتمعت الجمعية العمومية للشعب المصري لمدة 18 يوما، لتقرر للأسف انفضاضا بعد أن ظنت أنها حققت هدفها بخلع مبارك عن الحكم، وكأنها حققت شعار الثورة الذي كان يهتف به المتظاهرون “عيش – حرية – عدالة اجتماعية”، والحقيقة أنها خلعت مبارك ولم تغيّر النظام، ولم تحقق الأهداف -حتى الآن-.

أبطال من ورق

لقد خرج الشعب المصري من ثورة يناير وهو أكثر تلاحما وقبولا لبعضه؛ نتيجة أيام الثورة العظيمة، وغبطته من جميع شعوب الأرض، ولكن خلال أيام بدأت الانقسامات بين أصدقاء الأمس، وأصبحوا أعداء اليوم، ومنذ موقعة “نعم ولا” الخاصة بالتعديل الدستوري زادت الخلافات، وظهر أبطال للثورة لم نسمع عنهم من قَبل صنعهم الإعلام على عينه؛ ليتاجر بهم، ويسوّق بهم حملات “أبطال وزعماء ثورة يناير”، وأشهر واحد فيهم لا يستطيع أن يقنع أهل منزله بالخروج لمظاهرة؛ حيث لم تخرج جموع الشعب المصري بدعوة هؤلاء، ولا يعرفهم، والشاب البسيط العامل باليومية الذي التقيته في ميدان التحرير ليلة معركة الجمل لا يعرف هؤلاء ولا غيرهم.

ولأنّ لكل ثورة أعداء أيضا لم تقتصر سهام الأصدقاء على الانطلاق ضد الثورة؛ ولكن كان لأعدائها سهام أخرى أُطلقت على جميع جسد الثورة، وحاولت النيل منها، ووأدها قبل أن تغيّر النظام فعلا، فقد تمّت التضحية برأس النظام، ولكن تم الحفاظ على الجسد؛ بل تمّت إعادة تدويره مرة أخرى، ومرات عديدة، حتى عاد جسدا ضخما يأكل كل مَن حوله، ومَن كان معه، ومن كان ضده، والهدف القضاء على فكرة الثورة في حد ذاتها.

ذكرى للحالمين

وقد استمرت الثورة الفرنسية سنوات عديدة حتى حققت أهدافها، فهل احتاجت ثورة يناير إلى 13 سنة حتى تنسى جميع أهدافها، فقد يرى البعض أنه لم يتبقَّ منها إلا ذكرى للحالمين، ومَن شارك فيها بعفوية نابعة من حب الوطن، وهناك من يعيش على أمل أن يأتي جيل جديد يصنع ثورة كاملة يحقق فيها كل الأهداف النبيلة للأمة كلها، ولا يتفرّغ بعضهم لجمع المغانم، ولا يصنع نصف ثورة يتم الالتفاف حولها بكل خبث من أصحابها، ومن أعدائها.

لقد ضحّى وأصيب آلاف المصريين من كل الأطياف، ومن كل الأعمار، واستشهدوا من أجل هذه الثورة التي لم تنجح -حتى الآن- في تحقيق ما قامت من أجله، فلا ينبغي لنا أن ننسى تضحياتهم، وأقل وفاء لهم أن نستمر في الحلم، ونؤكد لهم أن الثورة مستمرة في قلوبنا وعقولنا.

هذه ليست كلمات يأس أو جلد للذات نخصّ بها ثورتنا بقدر ما هي دعوة إلى التفكير في الثورة التي ضاعت من أيدينا.

المصدر : الجزيرة مباشر