الطريق نحو البيت الأبيض (2): التحديات المجتمعية

البيت الأبيض (غيتي)

تشهد الولايات المتحدة الأمريكية هذا العام، 2024، الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لاختيار من سيحكم البيت الأبيض للسنوات الأربع القادمة، وكيف سيتشكل الكونغرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ، في ظل تحولات إقليمية ودولية، تؤثر وتتأثر بما يدور في الداخل الأمريكي، لأهمية ومركزية الدور الذي تمثله الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي الراهن.

وأمام ما تمثله هذه الانتخابات تأتي هذه السلسلة من المقالات، للوقوف على نشأة وتطور النظام السياسي الأمريكي وكيف تتم العملية الانتخابية في الولايات المتحدة، وبيان أهم القضايا الداخلية والخارجية التي تشغل الناخب الأمريكي، وكيف سيكون شكل المواجهة بين مرشح الحزب الديمقراطي، الرئيس الحالي جو بايدن، والمرشح المحتمل عن الحزب الجمهوري، الرئيس السابق، دونالد ترامب.

أمة المهاجرين: خصائص وسمات

المجتمع الأمريكي، مجتمع استيطاني، تكَّون عن طريق الهجرة، ولذلك كان هناك سعي دائم نحو تحقيق الاندماج أو التكامل القومي بين العناصر المهاجرة، ومحاولة إضفاء الهوية المشتركة والمميزة عليها، والقضاء على الروابط بين هذه العناصر المهاجرة وأوطانها الأصلية أو إضعاف تلك الروابط على الأقل، وذلك باتباع استراتيجية “بوتقة الصهر”.

هذا بجانب عدم وجود سمات المجتمع الإقطاعي، أو العداوات الدينية القوية، أو الهياكل الاجتماعية الجامدة، وهو ما ترتبت عليه اللامركزية السياسية، وعدم تركيز السلطة، كما أن الثقافة الأمريكية ثقافة تحمل الكثير من ثقافة المجتمع الإنجليزي في القرن السابع عشر، فالمهاجرون الجدد من الإنجليز إلى الأرض الأمريكية هم النواة التي تمحور حولها المجتمع، كما أن الثقافة الإنجليزية هي التي صبغت المجتمع الأمريكي بصبغته السياسية والثقافية، وشكلت مؤسساته السياسية، وفرضت فيه لغتها، ونمط العمل، وطرق التفكير، وغيرها من العادات والخصائص.

كذلك فإن الطابع المميز للمجتمع هو الفردية الجماعية التي لا تفرق بين الأفراد في خضم المجتمع، بل تحتفظ لكل إنسان بفرديته المستقلة على الرغم من اشتراكه مع الآخرين في جماعة واحدة، يربط بينها الصالح المشترك، فالمجتمع مجموعة من الأفراد لا جسم واحد متعدد الأعضاء، وهذه الفردية هي إفراز نفسي اجتماعي تضافرت على تجسيمه ظروف ومعطيات مميزة لطبيعة المجتمع.

لذلك ذهب فريق من المحللين إلى القول إن القومية الأمريكية لا تزال جذورها تتسم -إلى درجة كبيرة- بالهشاشة، فهي مجرد نمط انبثق فجأة مع ظهور الدولة الأمة، واتجه إلى تبرير وجوده بالاستناد إلى النظم القانونية والأيديولوجية التي هي نتاج رغبة المشرع المباشرة والإرادية، وليست امتدادًا للماضي أو تطويرًا له، وأصبح الأمريكيون ينتمون إلى قومية قبل أن تتكون لديهم الأمة، قومية أريد لها أن تكون دينًا مدنيًّا، وتم اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تحويل هذا المزيج العجيب من السكان إلى جماعة وطنية، وتم توفير ميراث مصطنع من التقاليد المشتركة التي تستقي شعائرها من طقوس الطوائف الدينية المختلفة.

كما أن الرغبات الانفصالية داخل البنية الأمريكية ليست مثل غيرها، فهي لا تتعلق بأرض كالانفصاليات الأخرى في العالم، ولكنها انفصالية فك الاعتماد، وتحقيق الذات، وصنع أو استعادة الهوية، ففي المجتمع الأمريكي الفصل حلم لا يمكن تحقيقه أمام الانتشار والتداخل بين الأعراق والثقافات، والاندماج -أيضا- حلم لا يمكن تحقيقه، لأن أمريكا مجتمع لا تتكامل فيه الألوان وإن تجاورت، وأصبح الواقع الأمريكي يقوم بوجود تعددية ولكن بهيمنة بيضاء تقوى لتستعيد نفوذها المطلق على غيرها من الشعوب الأمريكية.

ومحصلة كل ما سبق أن المجتمع الأمريكي غير محدد الهوية -من المنظور الحضاري- أي لم تتبلور له هوية متميزة بشكل كامل بعد، لأنه إذا كان قد خرج من رحم أوربا بكل تناقضاتها وتنوع روافدها، فإنه لم يندمج مع الأصحاب الأصليين للأرض، وبعد أن نجح في استئصالهم خاض حربًا جديدة ضد الوطن الأم من أجل تشكيل مستقبل خاص به، فالمجتمع الأمريكي ككيان أقرب إلى شكل الإمبراطورية منه إلى الدولة.

 

الثورة الأمريكية وثنائية الفكر والحركة

بدأت الثورة الأمريكية، أو حرب الاستقلال عن بريطانيا، مناوشات صغيرة بين القوات البريطانية والمستوطنين المسلحين في 19 نيسان/إبريل 1775، وانطلقت القوات البريطانية من بوسطن في ولاية مساشوستس لمصادرة الأسلحة والذخائر التي جمعها المستوطنون الثوار في القرى المجاورة.

واجهت هذه القوات في لكسينغتون مجموعة من مقاتلي “Minute men” أو رجال الدقيقة، الذين حصلوا على هذا اللقب لأنهم كانوا يصبحون جاهزين للقتال خلال دقيقة واحدة، وأراد هؤلاء القيام باحتجاج صامت فقط وأمرهم قائدهم بعدم إطلاق النار ما لم تُطلق النار عليهم أولًا.

أمر البريطانيون مقاتلي “Minute men” بالتفرق وامتثل هؤلاء للأمر، وعندما بدؤوا ينسحبون أطلق أحدهم النار، فهاجمتهم القوات البريطانية بالبنادق والحراب، واندلع القتال في أماكن أخرى على امتداد الطريق عندما كان الجنود البريطانيون عائدين إلى بوسطن، وقُتل وجرح أكثر من 250 بريطانيا، وخسر الأمريكيون 93 رجلًا.

وتواصلت الصدامات حول بوسطن وسارع مندوبو المستوطنين إلى فيلادلفيا لمناقشة الوضع، وصوتت الغالبية لصالح إعلان الحرب ضد بريطانيا، ووافق المندوبون على توحيد قوات المستعمرات ضمن جيش موحد، وانتخبوا جورج واشنطن من ولاية فيرجينيا قائدًا عامًّا لهذا الجيش. وتبنى المؤتمر القاري الثاني قرارًا يحث الملك جورج الثالث على منع حصول أعمال عدائية لاحقة. ورفض الملك هذا الطلب، وفي 23 أغسطس/آب 1775 أعلن الملك أن المستعمرات الأمريكية أصبحت في حالة عصيان.

وتصاعدت الدعوات إلى الاستقلال، ونشر “توماس باين” وثيقة “المنطق السليم” التي بِيع منها نحو 100 ألف نسخة، وقد هاجم فيها فكرة الملكية الوراثية. وقدم وسيلتين بديلتين لأمريكا: إما الخضوع المتواصل لنظام حكم ملك مستبد ونظام حكم بالٍ وإما حرية وسعادة العيش في جمهورية مستقلة، ذاتية الاكتفاء.

وشكل المؤتمر القاري الثاني لجنة ترأسها توماس جيفرسون من فرجينيا لإعداد وثيقة توجز الشكاوى المرفوعة ضد الملك وتفسر قرارات المستعمرات بالانفصال. تم تبني وثيقة الاستقلال في 4 يوليو/تموز 1776، الذي أصبح يشكل يوم الاستقلال الأمريكي، واستمدت الوثيقة مضامينها من أفكار سياسية فرنسية وبريطانية، ولا سيما تلك الأفكار التي أوردها جون لوك في بحثه “الرسالة الثانية حول نظام الحكم”، التي أعاد فيها تأكيد الاعتراف بأن الحقوق السياسية هي حقوق إنسانية أساسية ولذلك فهي حقوق عالمية.

وكان التحول الاستراتيجي في المواجهة، عام 1778 عندما اعترفت فرنسا بالولايات المتحدة ووقعت معاهدة دفاعية ثنائية معها. وقدمت الحكومة الفرنسية دعمًا كبيرًا للثوار الأمريكيين، وتواصل القتال الذي انطلق من لكسينجتون في مساتشوستس لمدة ثماني سنوات وغطى قسمًا كبيرًا من القارة، وجرت المعارك بدءًا من مونتريال في كندا شمالًا وصولًا إلى سافانا في جورجيا جنوبًا، واستسلم الجيش البريطاني في يورك تاون، بفرجينيا عام 1781.

استمرت الحرب حتى تمّ توقيع معاهدة سلام في باريس في 15 إبريل/نيسان 1783، اعترفت باستقلال وحرية وسيادة المستعمرات الأمريكية الـ13 التي أصبحت ولايات فيما بعد.

الإمبراطورية بين الوحدة والتمدد والانعزالية

في عام 1873، تحولت المستعمرات الأمريكية الثلاث عشرة إلى 13 ولاية أمريكية، وذلك في أعقاب حربها لنيل الاستقلال عن بريطانيا. وقبل أن تنتهي الحرب كانت هذه المستعمرات قد صادقت على إطار عمل لجهودها المشتركة. حيث نصت مواد الدستور الكونفدرالي على إقامة اتحاد ولكنه كان اتحادًا غير مترابط وهشًّا إلى درجة أن جورج واشنطن، الرئيس الأول للولايات المتحدة، وصفه بأنه “حبل من الرمال”.

فلم تكن هناك عملة مشتركة، ولا قوة عسكرية قومية، وكانت ولايات عديدة لا تزال تحتفظ بجيوشها وقواتها البحرية الخاصة، ولم تكن هناك سيطرة مركزية ذات شأن على السياسة الخارجية، حيث كانت الولايات تتفاوض بصورة مباشرة مع الدول الأخرى. كما لم يوجد نظام قومي للضرائب.

وفي 17 سبتمبر 1787، وقّع غالبية المندوبين على الدستور الجديد. ووقعوا على أن يصبح هذا الدستور قانون البلاد بعد أن تصادق عليه تسع ولايات من أصل الولايات الثلاث عشرة، ودامت عملية المصادقة حوالي سنة.

وأدّى جورج واشنطن اليمين الدستورية أول رئيس للولايات المتحدة في 30 إبريل 1789، وعمل مع الكونغرس على تأسيس وزارات الخارجية، والمالية، والعدل، والحرب. وكان على رؤساء هذه الوزارات أن يعملوا بمثابة مستشارين رئاسيين، وتشكلت محكمة عليا، مكونة من رئيس وستة قضاة مشاركين مع ثلاث محاكم دورية و13 محكمة محلية. كما تمّ تطوير سياسات لإدارة الأراضي الغربية وإدخالها إلى الاتحاد لتكون ولايات جديدة، وتولى جورج واشنطن الحكم فترتين رئاسيتين مدة كل واحدة منهما 4 سنوات ثم غادر منصبه، رغم أن الدستور كان ينص آنذاك على إمكانية تعدد الفترات الرئاسية.

وتضاعفت مساحة الولايات المتحدة من خلال شراء منطقة لويزيانا من فرنسا عام 1803، ثم بدأت الحرب مع بريطانيا عام 1812، في الولايات الشمالية الشرقية وعلى امتداد الساحل الشرقي، حيث وصلت حملة بريطانية إلى العاصمة الجديدة واشنطن، في مقاطعة كولومبيا، وأشعلت النار بمقر السلطة التنفيذية وأجبرت الرئيس جيمس ماديسون على الفرار، وتركت المدينة مشتعلة، لكن الجيش الأمريكي والبحرية الأمريكية حققا عدة انتصارات في معارك حاسمة كانت كافية لتحقيق النصر، وبعد عامين ونصف من المعارك وقعت بريطانيا معاهدة سلام مع الولايات المتحدة.

ثم قامت الولايات المتحدة بشراء فلوريدا من إسبانيا عام 1819، وضمت ست ولايات جديدة بين عامي 1816 وعام 1821، وازداد عدد السكان ثلاثة أضعاف بين عام 1812 وعام 1852، وكان الحدث الأكثر أهمية في السياسة الخارجية خلال تلك الفترة هو صدور إعلان الرئيس جيمس مونرو عام 1823 الذي رسخ فكرة الانعزالية الأمريكية مع هيمنة الولايات المتحدة على العالم الجديد، لكنه لم يحل دون حدوث تصدعات حقيقية في بنية المجتمع قادت في الأخير إلى حرب أهلية عام 1861!

يُتبع..

المصدر : الجزيرة مباشر