الطريق نحو البيت الأبيض (3): الجرح الغائر

صقر يحلق بالقرب من العلم الأمريكي فوق مبنى مكتب أيزنهاور التنفيذي، بجوار البيت الأبيض، في واشنطن العاصمة في 9 فبراير 2024 (الفرنسية)

شهد التاريخ الأمريكي حربين ما زالت آثارهما حاضرة في عقول وقلوب معظم الأمريكيين وتشكل جرحًا غائرًا داميًا حتى اليوم، حيث كان لكل منهما تأثيره الكبير في مسيرة الدولة والمجتمع، الأولى كانت الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد عام 1861، والثانية حرب فيتنام.

حرب أهلية ومخططات تفكيك واغتيال

في إبريل 1861 بدأت الحرب الأهلية في البلاد، حيث ادعت الولايات الجنوبية أنها تملك الحق في الانفصال وشكلت كونفدرالية خاصة بها، وصممت الولايات الشمالية، بقيادة الرئيس أبراهام لينكولن، على وقف العصيان والمحافظة على الاتحاد.

وكانت ولايات الشمال ضعف عدد الولايات وضعف عدد السكان في الجنوب، وكان الشمال يملك مرافق لإنتاج الذخائر الحربية كما كانت لديه شبكة متفوقة من السكك الحديدية. وفي المقابل كان لدى الجنوب قادة عسكريون يملكون خبرة عسكرية أكثر وتمثلت أفضليتهم في أنهم يحاربون في الأغلب على أرضهم.

وخلال الحرب أصدر الرئيس لينكولن إعلانًا أوليًّا لتحرير العبيد، حرّر بموجبه كافة الأرقاء الذين يعيشون في الولايات الكونفدرالية وأجاز تجنيد الأمريكيين الأفارقة في جيش الاتحاد، وأصبح الشمال يحارب للمحافظة على الاتحاد ولإنهاء نظام الرق.

وبعد أقل من أسبوع واحد من استسلام الجنوب تم اغتيال الرئيس لينكولن، وانتقلت الرئاسة إلى نائبه “أندرو جونسون”، الذي أصدر مراسيم عفو أعادت الحقوق السياسية إلى العديد من الجنوبيين، وبحلول نهاية 1865 كانت كافة الولايات الكونفدرالية السابقة قد عقدت مؤتمرات لإلغاء قوانين الانفصال ونظام الاسترقاق. ووافقت جميعها باستثناء “تنيسي” على التصديق على تعديل دستوري يمنح كامل حقوق المواطنة للأميركيين الإفريقيين.

لكن لم تختفِ الانقسامات ومشاعر الكراهية التي قادت إلى اندلاع الحرب الأهلية، فالسود الجنوبيون كسبوا حريتهم ولكنهم منعوا من التمتع بها بسبب إصدار قوانين محلية، تمنعهم من الوصول إلى العديد من المرافق العامة، وكسبوا حق التصويت ولكنهم كانوا يتعرضون للتخويف عند صناديق الاقتراع، وبدأت عملية إعادة الإعمار بعد الحرب ولكنها سقطت في دوامة من الفساد والتمييز العنصري.

حربان عالميتان وبينهما كساد عظيم

بعد حوالي نصف قرن من الحرب الأهلية، كانت الولايات المتحدة على موعد مع أزمة كبيرة، بدأت سياسية عسكرية وتحولت إلى اقتصادية عالمية، حيث كانت البداية مع الحرب العالمية الأولى، التي شهدتها القارة الأوربية بين عامي 1914 و1918، والتي أثرت في المصالح الأمريكية، خاصة بعد أن أعلنت الولايات المتحدة الحرب ضد ألمانيا والنمسا/ المجر عام 1917، وكان للتدخل الأمريكي دور حاسم في إلحاق الهزيمة بالحلف الألماني النمساوي المجري، وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، تم توقيع معاهدة هدنة كانت مقدمة لنهاية الحرب العالمية الأولى.

وتمتعت الولايات المتحدة خلال السنوات العشر التالية لهذه الحرب بفترة ازدهار حقيقي، ونجحت المطالبات بمنح المرأة حق الاقتراع، بعد عقود من النضال السياسي، في الحصول على الموافقة على إجراء تعديل دستوري عام 1920، منح المرأة حق التصويت.

لكن مع نهاية عشرينيات القرن العشرين هبطت قيمة العديد من أسهم بعض الشركات والقطاعات الاقتصادية العملاقة، وأصبح تراجع الأعمال في أمريكا جزءًا من كساد اقتصادي عالمي، وأغلقت العديد من شركات الأعمال والمصانع، وأفلست العديد من البنوك، وبحلول نوفمبر 1932، بلغت نسبة البطالة بين الأمريكيين 20 بالمئة، وهو ما أدى بعد ذلك إلى فشل الرئيس هربرت هوفر في الانتخابات أمام فرانكلين روزفلت، الذي اقترح “برنامجا جديدًا”، تضمن خطة لمواجهة الكساد الاقتصادي الكبير.

وتمّ تأسيس وكالة فدرالية لضمان الودائع في بنوك التوفير، وفُرضت أنظمة على عمليات بيع الأسهم، وصدرت قوانين تضمن حق العمال في الانضمام إلى نقابات تمثلهم، وتلقى المزارعون إعانات لمحاصيل معينة ومساعدة لمنع انجراف التربة، ووظف الفيلق المدني للمحافظة على الطبيعة شبّانًا لزرع الأشجار، وتنظيف القنوات المائية، وتحسين المرافق في المتنزّهات العامة. ووظفت إدارة الأشغال العامة عمالًا للعمل في مشاريع واسعة النطاق لإنشاء السدود والجسور.

وأمّنت هيئة “سهل تنيسي” السيطرة على الفيضانات وإنتاج الطاقة الكهربائية لتلك المنطقة الفقيرة. ووزعت الإدارة الفدرالية للإغاثة الطارئة المساعدات. ووظفت عمالًا لبناء الطرق، والمطارات والمدارس، ووظفت فنانين، ممثلين، وموسيقيين، وكتابًّا وأمّنت وظائف بدوام جزئي للشباب. كما أنشأت نظام الضمان الاجتماعي لمساعدة المحتاجين، وكان الأمريكيون يشعرون بعدم الارتياح من فكرة الحكومة الكبيرة، ولكنهم أرادوا من الحكومة أن تتحمل مسؤولية أكبر في تأمين معيشة الناس العاديين.

وما إن بدأت الولايات المتحدة تتعافى من أزمة الكساد العالمي حتى دخلت في تطورات الحرب العالمية الثانية التي بدأت 1939، إذ اجتاحت ألمانيا فرنسا وهاجمت بريطانيا بالقنابل والصواريخ، وهددت اليابان بالاستيلاء على مصادر المواد الأولية المستعملة من جانب الصناعات الغربية. وردًّا على هذا التهديد، صادق الكونغرس الأمريكي على التجنيد الإلزامي وتعزيز القوات المسلحة، وفرضت الولايات المتحدة حظرًا على النفط، وطالبت اليابان بالانسحاب من المناطق التي استولت عليها، فرفضت اليابان، وفي 7 ديسمبر 1941 نفذت هجومًا مدمّرًا على الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ في ميناء بيرل هاربر، فأعلنت الولايات المتحدة الحرب على اليابان، وأعلنت ألمانيا وإيطاليا حليفتا اليابان الحرب على الولايات المتحدة.

وتمّ تسخير الصناعة والزراعة الأمريكية للجهود الحربية، فتم إنتاج 300 ألف طائرة، و5 آلاف سفينة شحن، و60 ألف سفينة إنزال، و86 ألف دبابة خلال أقل من أربع سنوات بين عامي 1941 و1945.

وقررت الولايات المتحدة، التي تحالفت مع بريطانيا والاتحاد السوفيتي لمواجهة التهديد النازي، تركيز جهدها العسكري الأولي في أوربا، وصممت على تحطيم السيطرة الألمانية الإيطالية على البحر المتوسط ومنع سقوط موسكو، وبعد ذلك يتم تحرير روما وباريس وبرلين.

وكانت الحرب في آسيا بصورة كبيرة سلسلة من المعارك البحرية والهجمات البرمائية لتحطيم السيطرة اليابانية على جزر في المحيط الهادئ. وقد استمر القتال هناك بعد توقف القتال في أوربا، وكانت المعارك النهائية من أكثر المعارك دموية في الحرب، وكانت نهايتها بعدما أمر الرئيس ترومان، بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي أجبرتا اليابان على الاستسلام.

حرب باردة وعقدة للتاريخ

أدت الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا على قمة النظام الدولي الثنائي القطبية الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وعززت نفوذها السياسي العالمي بشبكة من المنظمات الدولية والإقليمية كان في مقدمتها منظمة الأمم المتحدة ومعاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو) اللتان تشكلتا بعد الحرب، وسعت الولايات المتحدة لفرض هيمنتها على أوربا ونشر نموذجها في السياسة والاقتصاد في دول القارة، والتزمت بدفع 17 مليار دولار بموجب “مشروع مارشال” لإعادة بناء أوربا الغربية، في مواجهة الاتحاد السوفيتي، القطب الثاني على قمة النظام الدولي، الذي هيمن على أوربا الوسطى والشرقية.

وتعهدت الولايات المتحدة باحتواء التوسع السوفيتي، وفرضت عليه الانسحاب الكامل من إيران، ودعمت تركيا ضد المحاولات السوفيتية للسيطرة على الممرات البحرية، وقدمت مساعدة اقتصادية وعسكرية لليونان لإخماد عصيان شيوعي قوي مدعوم سوفيتيًّا، وقادت جهود النقل الجوي لملايين الأطنان من الإمدادات إلى برلين عندما حاصرها الاتحاد السوفيتي، ودخلت في مواجهة مباشرة في كوريا، التي تم تقسيمها إلى دولتين شمالية، يهيمن عليها الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، وجنوبية، تهيمن عليها الولايات المتحدة.

وكان من أهم وأخطر إفرازات مواجهات الحرب الباردة، حرب فيتنام، حيث أرسلت الولايات المتحدة جيوشها لدعم فيتنام الجنوبية ضد النظام الشيوعي في فيتنام الشمالية، وتصاعدت درجة التورط الأمريكي في فيتنام وتعرضت لهزيمة قاسية، حتى اضطرت إلى الانسحاب عام 1975، وسببت الحرب مئات الآلاف من القتلى كما أوجدت انقسامات مريرة في المجتمع الأمريكي، وخلقت عقدة تاريخية، ما زالت تطارد الإمبراطورية حتى اليوم، ولا تكاد توجد حملة انتخابية أمريكية إلا وتتذكر هذه المأساة، وخاصة من جانب التيارات الفكرية الرافضة للانخراط الأمريكي في الصراعات الدولية.

وبين عقدة الحرب الأهلية التي انتهت 1865، وعقدة الحرب الفيتنامية التي انتهت 1975، سيظل هذا الجرح غائرًا في مسيرة الولايات المتحدة، دولة وشعبًا وإمبراطورية، يُذكر الجميع أنها ليست أكبر من التفكيك من الداخل أو الهزيمة من الخارج.

المصدر : الجزيرة مباشر