هل سيصدر قرار بإلغاء النار؟

مفتي مصر السابق علي جمعة (مواقع التواصل)

ربما صارت هذه الحقيقة من القطعيات، التي إنْ لم يُسَلِّمْ بها العاقل فقد شهد على نفسه بأنّه عاش دهره في عزلة عن حياة الناس، وما يضطرب في أجوائها من تدافعات فكرية، مُفادُ هذه الحقيقة أنّ العلم وحده لا يكفي لتأمين الاهتداء إلى الصواب، حتى يكون التجرد من الهوى صِنْوه الملاصِق وقرينه الملازِم؛ فلم يكن أحدٌ من علماء الأحياء أغزر علمًا ولا أوسع استقصاءً ولا أعمق استنتاجًا من داروين، ومع ذلك فقد انتهى إلى أكذوبة أثبتَ العلمُ المعاصر ذاتُه أنّها أكثر إغراقًا في الخرافة من اللاهوت الكنسيّ الذي اجتهد في الفرار منه، ولم يكن في أهل الكتاب أغزر علمًا من الأحبار، ومع ذلك فقد انتهى بهم المطاف إلى التحريف، الذي حَشَرَ في سياق العقائد والشرائع كمًّا هائلا من المحالات؛ فإلى متى ستنخدع الأجيال في علماء أثبتت الوقائع المتعاقبة انحراف دوافعهم وانخرام مقاصدهم؟!

اتخاذ القرار بإلغاء النار

ليست هذه هي المرة الأولى التي ينغمس فيها “علي جمعة” في الخرافة إلى لبّته، لكنّه في هذه المرة بالَغَ في التجديف العنيف ضد تيار الثوابت، وعلى طريقته اللولبية أطلق خرافته في الأثير العقديّ؛ زاعمًا أنّه من الوارد أنْ يتخذ الله قرارًا يوم القيامة بإلغاء النار! وحتى لا يشعر الناس -في هذه الدعوى الساقطة- برعونة الادعاء وجلافة الافتئات قام بطلائها بما يسهل تمريرها: ما المانع؟ أليست إرادته مطلقة؟ أليست رحمته سبقت غضبه؟ أليس كرمه يستدعي منه أن يرجع في وعيده ولا يرجع في وعده؟ وهكذا نجح الرجل، ليس في تقرير حقيقة يمكن أن تناقَش فتُرفَض أو تُقبَل، وإنّما في إطلاق خرافة خطيرة يعلم الجميع بطلانها ولكن يصعب عليهم إلقاء القبض عليها؛ وهي تتخفى وسط غلالة من الجمل الهلامية، التي يختلط فيها الحق بالباطل ويمتزج فيها الصواب بالخطأ؛ بما يؤكد أنّ هذا هو التلبيس الذي نهى الله عنه ضُلَّال أهل الكتاب في قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

لأنّه فَعَّالٌ لِما يريد لَنْ يقعَ ما تُريد

أجل إنّ الله {فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ}، لكنَّ اللهَ الفعَّال لما يرد هو الذي أخبرنا بما قضت به إرادته وتوجهت إليه مشيئته، أنْ يعذب أعداءه في نار جهنم، وساق لنا في كتابه العزيز خبر ذلك الوعيد، مُفَصَّلًا في آيات مُحْكَمات بلغت من الكثرة والوفرة حدًّا يعجز عن بلوغ مداه كل من رام بالإسهاب تقريرًا بعد تقرير وتأكيدًا بعد تأكيد؛ فإذا كان الله تعالى قد سبق في علمه أنّه سيتخذ هذا القرار فهل من المعقول أنْ يخبر بما يعلمُ أنّه لن يقع؟ ويسهب ويطنب ويقرر ويكرر ما لا وجود له في علمه السابق وإرادته النافذة؟ ما هذه الخطة التي يستنكف العبد منّا أن يتبعها في تقويم أولاده أو تلاميذه وتريد أن تنسبها إلى الله؟ هل خطر لك أنَّك بهذه الدعوى تصف الله تعالى بما لا يليق به مما تستحي السطور أن تصرح أو حتى تلمح بذكره منسوبًا إلى الله عزّ وجل؟ وإذا كان الله قد سبق في علمه أنّه سيتخذ قراره بإلغاء النار؛ فلماذا الوعيد؟ وما هي الحكمة منه؟ ستقول وأنت متكئ على كرسيك الوثير: لأجل تخويف العباد من الفساد؛ إصلاحًا لهم، وإذَنْ فقد أبْطَلْتَ أنت حكمة الله وكشفت خُطَّتَهُ؛ فما هذا الهراء بحقّ السماء؟!

عفو كريم وعزيز ذو انتقام

وإذا كان الله هو الرحمن الرحيم فإنّه كذلك {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}، فكيف تنظر إلى جانب من صفات الله وتهمل الآخر؟ وما أنت فاعل تجاه هذه المؤكدات القرآنية التي ردّ بها العلماءُ على من قال -ليس بإلغاء النار- وإنّما فقط بفناء النار بعد عذاب الكفار: {‌كُلَّمَا ‌خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، {‌كُلَّمَا ‌نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ‌لَا ‌يُقْضَى ‌عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا ‌أُعِيدُوا ‌فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ} وغيرها من الآيات التي تؤكد عدم فناء النار فضلا عن إلغائها من الأساس، ومن المعلوم لك قبل كثير من الناس أنّ القول بعدم فناء النار هو قول جماهير علماء الأمة، بما فيهم دار الإفتاء المصرية التي أفتت بأنّ عدم فناء النار هو القول المقطوع به، وذلك في الفتوى رقم 100 لعام 2014.

الوعد حقٌّ والوعيد حقٌّ

ألم تعلم أيها الشيخ أنّك بهذا الزعم الساقط تعبث عند تخوم العزّة الإلهية؟ كيف تدَّعي أنّ الله يبطل ما أكد في كتابه أنّه حق، ألم يمرّ بك يومًا آية من الآيات التي تقرر أنّ الوعيد حقٌّ لازم، ألم تقرأ يومًا: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ‌فَحَقَّ ‌عِقَابِ}، {كلٌّ كذَّبَ الرسُلَ ‌فَحَقَّ ‌وَعِيدِ}، {‌مَا ‌يُبَدَّلُ ‌الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ‌وَاخْشَوْا ‌يَوْماً ‌لا ‌يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، ألم تعلم أنّ مقتضى الحكمة الإلهية أن يقع الثواب والعقاب؟ وأنّ الذين نفوا ذلك يلزم من نفيهم هذا أنّ الله -تعالى عمَا يقولون علوًّا كبيرا- قد خلق السماوات والأرض باطلا، فإن كنت في ريب من هذا فاقرأ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}، {أَفَنَجْعَلُ ‌الْمُسْلِمِينَ ‌كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.

ما الذي يراد؟

إنّها ليست سوى حملة من الحملات التي تشنها الأنظمة المستبدة، مستخدمة أدواتها الإعلامية والإفتائية، ومستهدفة تمييع الأجيال ليسهل تطويعها لما يمليه المستبدون، بعيدًا عن حسِّ المراقبة الذي ينشئه الإيمان بالوعد والوعيد؛ لذلك كثيرًا ما اقترن الإرجاء في تاريخنا وواقعنا بإخضاع الرعية للحكام، فهل سيستفيق الغافلون؟ أم ستطول الغفوة ويطول معها أمد الظالمين؟

المصدر : الجزيرة مباشر