العلاقة بين “آرون بوشنيل” و”راشيل كوري” والملاكم محمد علي كلاي

راشيل كوري

إن ما حدث من الضابط الأمريكي آرون بوشنيل من حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، يعد تعبيرًا عن شدة غضبه مما يحدث، واعتراضًا على المشاركة الأمريكية في تلك المجازر التي تحدث في غزة، جاء أشد تعبيرًا من أي معارضة لما يحدث في غزة حاليًا.

فأن تضحّي بروحك وجسدك من أجل مبادئك هو أغلى أنواع التضحية، وأرفعها قيمة للتعبير عن المبادئ والمواقف رغم أن التضحية بالنفس والروح يفعلها المجاهدون في مواقف متعددة، ولكن جاء هذا الفعل من الضابط الأمريكي الذي احترم إنسانيته ونفسه ومبادئه، ليعبّر عن موقف جديد في وسائل الاعتراض التي تتفاعل في أمريكا والدول الغربية ضد معركة الإبادة والتجويع، التي تنتهجها إسرائيل تجاه الأطفال والنساء والشيوخ في غزة والمدنيين كافة بدعوى القضاء على “حماس”.

رسالة آرون بوشنيل

موقف الضابط الأمريكي وآخر كلماته رسالة واضحة للإدارة الأمريكية، والرئيس الأمريكي بايدن، أن هناك معارضة قوية للموافقة الأمريكية على ما يحدث في غزة، وذلك من خلال إعطائها الضوء الأخضر للكيان المحتل فيما يفعله، وكذلك مساعدته بالأسلحة، والاستخبارات، والمساعدات اللوجستية.

لقد فضح النشطاء والمتظاهرون في أمريكا والدول الغربية التقاعس الدولي، وغضّ الطرف الذي تقوده حكوماتهم، والصمت على استمرار تلك المجازر الوحشية بحق مدنيين عزّل نزحوا من منازلهم مرات عدة وهم يتعرّضون للقصف، وحرب تجويع، حيث منعت عنهم إسرائيل الطعام والمياه والعلاج، ويعيشون في العراء، والعالم يشاهد حرب الإبادة دون اتخاذ خطوة لوقف جنون نتنياهو وتطرفه ومَن معه.

دهس راشيل كوري بالجرافات

لقد ذكّرني موقف الضابط الأمريكي باتخاذه خطوة جريئة بحرق نفسه أمام الجميع وهو يردّد عبارات الاعتراض على ما يحدث بما حدث للناشطة الأمريكية راشيل كوري في 17 من مارس/آذار عام 2003 عندما حاولت مشاركة الفلسطينيين في منع الإسرائيليين من هدم منازلهم في قطاع غزة، فما كان من الجرافات الإسرائيلية إلا أن دهستها أمام الجميع وحتى أمام الكاميرات التي تصور، في موقف يدل على الحقارة والوضاعة، والجرأة على كل القوانين والأعراف والتقاليد، وعدم الخوف من ردود فعل أمريكا والعالم.

لتنتهي حياة راشيل بعد أن قدّمتها ثمنًا لمواقفها ومبادئها، لكن المحاكم الإسرائيلية برّأت سائق الجرافة، واعتبرت الموضوع حادثًا مؤسفًا لن يحاكَم عليه أحد، وأنها أخطأت بوقوفها أمام الجرافة، وتحولت كتابات راشيل -التي نُشِرت بعد مقتلها- لتكون رمزًا للحملة الدولية باسم الفلسطينيين، وتم تحويل تلك الكتابات إلى مسرحية حملت عنوان “اسمي راشيل كوري”، ودارت فصولها عن حياتها، وجابت المسرحية مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك الضفة الغربية، وقطاع غزة.

صوفيا والتهديد بالقتل

وهناك -أيضًا- الفتاة الإسرائيلية “صوفيا أور” ذات الـ18 عامًا التي رفضت في الأيام الماضية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وأرادت أن تعبّر عن موقفها تجاه المجازر التي تحدث في غزة، وقالت “سأرفض التجنيد، وسأدخل السجن العسكري بسبب ذلك، فأنا أرفض المشاركة في سياسات القمع والفصل العنصري العنيفة التي فرضتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وخاصة الآن مع الحرب”.

وتلقّت صوفيا تهديدات بالقتل والاغتصاب، وتم اتهامها بالخيانة، وهي مهددة بالسجن لتكون أول فتاة إسرائيلية ترفض التجنيد.

محمد علي كلاي صاحب المبادئ

وقد ذكّرني موقف المجندة الإسرائيلية بما فعله الملاكم الأمريكي العالمي محمد علي كلاي عندما انحاز لمبادئه وإنسانيته -أيضًا-، ورفض الاشتراك في حرب فيتنام عام 1967، وتمت محاكمته، وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات وغرامة 10 آلاف دولار، وجُرد على الفور من لقب الوزن الثقيل، وقد تحدث عن أسباب دينية لقراره التخلي عن الخدمة العسكرية.

لقد كنت أحب الملاكم محمد علي كلاي في صغري، وأتابع كل ما ينشَر عنه، أو من خلال مشاهدتي له في التلفزيون على حلبة الملاكمة، لما يتمتع به من أسلوب فريد، وعِزة نفس، واعتزازه وفخره بالدين الإسلامي الذي اعتنقه، حيث لقّن الملاكم “إيرني تيريل” درسًا في حلبة الملاكمة عندما نعته باسمه قبل إسلامه، وأصرّ على أن ينطق اسمه الجديد وهو يضربه باللكمات، وفاز في هذه المباراة.

نعم، كنت أحب محمد علي كلاي بطلًا عالميًا للملاكمة لهذه الأسباب، ولكني أحببته أكثر عندما كبرت، وقرأت قصة سجنه بسبب مبادئه، ورفضه الحرب في معركة فيتنام التي شنتها أمريكا عليها.

إن المبادئ والقيم عندما يشاركها شخص ما في الوقوف بجانب الحق والإنسانية، خاصة إذا لم يكن من أهل القضية، لها صدى وتأثير كبير على مَن يقفون مع الحق جميعهم، وعندهم المبادئ نفسها، وإن ما يحدث في غزة من مجازر وحرب إبادة وتجويع، لم يحدث مثله في التاريخ، مع تواطؤ كبير من المجتمع الدولي الذي بات عاجزًا أمام الجنون الإسرائيلي بقيادة الجزار نتنياهو.

نعم نتنياهو يستمر في هذه المجازر والحرب، لأنه يهرب إلى الأمام، فهو يعلم أن تاريخه السياسي قد انتهى، واليوم الثاني لانتهاء حرب غزة ستكون نهايته، وسوف ينتهي سياسيًا، بل إنه سوف يحاكَم، وربما يكون مصيره السجن، لتكون المقاومة تاريخيًا هي السبب في نهاية نتنياهو، كما كانت السبب من قبلُ في نهاية أولمرت.

قد تكون العوامل المشتركة بين الضابط الأمريكي آرون بوشنيل الذي أحرق نفسه وبين الناشطة الأمريكية راشيل كوري التي تصدّت للجرافات الإسرائيلية فقامت بدهسها، وبين المجندة الإسرائيلية التي رفضت الحرب في غزة وتم سجنها، وبين الملاكم العالمي محمد علي كلاي، هي المبادئ والوقوف مع الحق التي ربما غابت عن الكثير، وتركوا غزة وحدها تصارع مجموعة دول -وليس إسرائيل فقط- في معركة تجاوزت الـ150 يومًا، وهي صامدة رغم الحصار المفروض عليها من الجميع.

المصدر : الجزيرة مباشر