الشعب السنغالي يختار الخلاص من هيمنة فرنسا

الرئيس السنغالي المنتخب بالزي الشعبي لبلاده (الأناضول)

 

أكدت نتيجة الانتخابات الرئاسية في السنغال قوة الشعوب، وأن الدول الاستعمارية التي تجيد السيطرة على الحكام في الغرف المغلقة تقف عاجزة أمام حركة الجماهير التي تسعى لانتزاع حقها في اختيار من يحكمها؛ فقد فشلت فرنسا بكل الوسائل في منع التغيير، وعجزت عن وقف تيار التحرر الذي يجتاح غرب إفريقيا ويزيح بالقوة ما تبقى من الاحتلال الفرنسي.

نجح الشاب بشير جوماي فاي بمنصب الرئاسة وحسم الانتخابات في الجولة الأولى بنسبة 54% من الأصوات، ولم يكن اسمه مطروحا في الصراع السياسي منذ 3 سنوات بين الرئيس ماكي سال المنتهية ولايته وزعيم المعارضة عثمان سونكو الذي منعوه بكل الوسائل العنيفة وغير المشروعة من خوض السباق على منصب الرئاسة.

خاف الفرنسيون من زعيم المعارضة عثمان سونكو الذي كان يسعى للاستقلال ويعلن بوضوح عن موقفه الرافض لاستمرار التبعية لفرنسا، ويدعو لوقف النهب الفرنسي لثروات السنغال، فحرضوا على اعتقاله ومنعه من خوض الانتخابات، فقام ماكي سال بالقبض عليه ولفق له قضايا كاذبة وجمد حزب “باستيف” الذي يقوده، واعتقل أكثر من 2000 من قياداته منهم الرئيس الفائز بشير.

ورط الفرنسيون ماكي سال، الذي أعلن من قبل أنه لن يترشح لفترة ثالثة، في حملة الاعتقالات والمصادرة، والسعي لإلغاء الانتخابات المقررة في 25 فبراير/شباط 2024، ودفعوه للإعلان عن إلغاء الانتخابات قبل موعدها بثلاثة أسابيع و”تأجيلها لأجل غير مسمى وفتح حوار وطني”! فكان القرار بمثابة الشرارة التي أحرقت الرئيس الذي تتلاعب به فرنسا، وفككت قبضة السلطة واستفزت الشباب السنغالي الذي نزل إلى الشوارع فوقعت اشتباكات وصدامات سفكت فيها الدماء .

تدخل البرلمان لامتصاص الغضب الشعبي بحل وسط، وهو تأجيل الانتخابات لمدة 10 شهور فقط، فاستمرت الانقسامات بين السياسيين وتصدع التكتل الحكومي، وزادت احتجاجات الشوارع سخونة، لأن التأجيل يعني إعطاء الرئيس وقتا إضافيا واعتبروه تحايلا، واضطر “المجلس الدستوري” للتدخل وتحديد موعد الانتخابات يوم 24 مارس/ آذار.

خرج عثمان سونكو وبشير جوماي من السجن قبل الانتخابات بعشرة أيام، ولأن سونكو كان يتوقع استبعاده طلب من زميله في الحزب بشير وآخرين التقدم بأوراقهم لخوض الانتخابات من باب الاحتياط، وحدث ما توقعه وتم استبعاد سونكو والآخرين، وبقي بشير الذي دعمه سونكو بكل قوته، وانخرط الشباب في حملته حتى أوصلوه إلى القصر الرئاسي، وأجبروا ماكي سال على الاعتراف بالنتيجة والقبول بتسليم السلطة.

طرد فرنسا من إفريقيا

فوز بشير جوماي فاي يمثل دفعة قوية لروح التحرر الإفريقي؛ فالتغيير في السنغال يساهم في رسم النهاية للوجود الفرنسي في القارة الإفريقية، خاصة أنه يأتي بعد تحرر مالي وبوركينافاسو والنيجر بانقلابات عسكرية، ورغم الاختلاف في طريقة التغيير فإن الرئاسة السنغالية الجديدة تتفق مع حكام الدول الثلاث في السعي لانتزاع الحرية واستعادة الاستقلال وبداية مرحلة جديدة بعيدا عن الظلم الاستعماري ووصاية الجيش الفرنسي.

في مالي وبوركينا فاسو والنيجر قام القادة العسكريون بطرد فرنسا، واستخدموا الخشونة في تفكيك القواعد العسكرية الفرنسية والأوربية، وبسبب الطبيعة الصارمة للأنظمة الجديدة -المؤيدة شعبيا-  نجحوا في اختصار الوقت للقضاء على النفوذ الفرنسي والدوائر المدنية التابعة له، بل وقررت النيجر طرد القوات الأمريكية وتفكيك قاعدة الطائرات المسيرة التي يديرها الجيش الأمريكي منذ 2012.

في السنغال سيحتاج الرئيس الجديد وحزب باستيف إلى وقت أطول لتنفيذ الوعود الانتخابية، ففرنسا ستظل تقاوم من أجل البقاء، من خلال أعوانها في الجيش والمخابرات ودوائر الحكم والنخبة، وزعماء الطرق الصوفية الذين يرتبطون بالدوائر الفرنسية بعلاقات قوية ولهم تأثير لا يستهان به، لكن الحماس والطوفان الشعبي وروح التحرر والتمرد ستكون هي العامل الحاسم لصالح الاستقلال ومنع العودة إلى الوراء.

قطار التغيير لن يتوقف

لو لم يتم التغيير في السنغال عبر الصندوق الانتخابي لكان بالانقلاب العسكري، فالثورة ضد فرنسا مشتعلة، والإصرار على طردها هو المطلب الذي تتفق عليه الجماهير والنخب، ولم تعد العسكرية الفرنسية قادرة على التصدي للموجة الشعبية المتنامية التي أصبحت ظاهرة تملأ السمع والبصر في كل غرب إفريقيا، حتى إن روح التمرد دبت في الجيوش التي ترفض أن تستمر في حراسة المستعمر وأعوانه.

عدة عوامل ساهمت في التعجيل بنهاية الحقبة الاستعمارية الفرنسية، أهمها الفقر الذي تعاني منه الشعوب الإفريقية بسبب النهب الاستعماري، فوفقا لاتفاقيات الاستقلال  المجحفة تحتكر فرنسا المواد الخام، وتستولي الشركات الفرنسية على المعادن والنفط والصيد، وتطبع فرنسا لهم العملة الاستعمارية “سيفا” لتبقيهم تحت رحمتها إلى الأبد.

من المفارقات أن الحرب الأوكرانية فضحت حالة الاقتصاد في هذه الدول الخاضعة لفرنسا، إذ كانت تستورد القمح رغم ما بها من أراضٍ زراعية، فبلد مثل السنغال يستورد 70% من احتياجاته الغذائية، رغم الثروات والمقدرات التي تسرقها فرنسا، لذا فإن الرئيس السنغالي الجديد، في أول كلمة له بعد الفوز، ربط احترام العلاقات مع الدول بالعدالة واحترام مصالح  السنغاليين.

من العوامل التي زادت من الغضب في السنغال ودول غرب إفريقيا التي تقطنها شعوب مسلمة حرب فرنسا على الإسلام، فحملات ماكرون الصريحة ضد المسلمين والتضييق عليهم وإغلاق مساجدهم في باريس والمدن الفرنسية، ومنع الحجاب والمظاهر الإسلامية بمزاعم حماية قيم الجمهورية أنهت ما بقي من صورة إيجابية لفرنسا، وأكدت أمام الأجيال الجديدة استحالة استمرار التبعية لمستعمر يجاهر بحرب دينهم.

وزاد من حماس وقوة حركة التحرر الموقف القوي والجماعي الذي أظهره التحالف الثلاثي “مالي وبوركينا فاسو والنيجر” الذي أجبر الجيش الفرنسي والجيوش الأوروبية التي جلبها معه للخروج، وفشل مخطط غزو النيجر عسكريا بغطاء من منظمة “إيكواس”، حيث استعدت الدول الثلاث للتصدي للغزو وأفشلته، وأسست تكتلا يتحرك بشكل جماعي؛ مما زاد من قوتها ومكنها من تفكيك وإضعاف الكيانات التي شكلتها فرنسا للسيطرة.

اللعبة الفرنسية

كشفت الحكومات الجديدة المتحررة من فرنسا اللعبة التي أتقنها الجيش الفرنسي في منطقة الساحل، فقد تراجعت المعارك التي كانت مشتعلة ضد ما يسمى “الإرهاب” حيث تبين أن فرنسا هي التي اخترعته، إذ كانت تشجع كل الأطراف لتتصارع، وكانت تدعم الحكم والمعارضة معا، وحتى بعض الجماعات التي تتهمها بالإرهاب، ولا تسمح بانتصار أحد؛ لتبقى خيوط اللعبة في يدها، لكن بعد خروجها أصبحت الصورة أكثر وضوحا وهي أن الاحتلال الأجنبي هو العدو، وحتى الجماعات التي ترفع لواء الشريعة توصلت إلى حقيقة أن “لا تطبيق للشريعة في ظل الاحتلال”.

يروج الإعلام الفرنسي وغيره أن الحكام الجدد يطردون فرنسا ويجلبون الروس بدلا منها، أي استبدال احتلال باحتلال آخر، وهذا اتهام مبالغ فيه؛ فالتعاون مع الروس في حدود شراء الأسلحة لجيوش حرصت فرنسا على أن تكون ضعيفة، والاستعانة بالفيتو الروسي في مجلس الأمن ضد العقوبات الفرنسية والأوروبية، وقد استعان التحالف الثلاثي بالسلاح التركي خاصة المسيّرات؛ مما ساهم في تحسين موقفه العسكري ضد احتمالات الغزو الخارجي الفرنسي.

الملاحظة الأهم على تيار التحرر الإفريقي الجديد أن القيادات التي تتزعم النضال هذه المرة تعتز بإسلامها، وترتبط بأمتها، وتسير في عكس الاتجاه الذي رسمته الدول الغربية سابقا بإحياء النعرات القومية والعرقية والابتعاد عن الإسلام والعداء للعرب، فقادة السنغال الجدد مثلهم مثل قادة مالي وبوركينا فاسو والنيجر يعتزون بالهوية الإسلامية التي تقوي شوكتهم وتعيد لهم التماسك وتربطهم بأمتهم.

المصدر : الجزيرة مباشر