هل تهدد إيران الأمن القومي الأمريكي؟

الرئيس الإيراني يتلقى العزاء في ضحايا القنصلية (الأناضول)

في الخامس من فبراير/شباط الماضي، أصدر مجتمع الاستخبارات الأمريكي تقرير “تقييم التهديدات السنوي لعام 2024″، ونشره مكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية في 11 مارس/آذار، والذي يتناول التهديدات الكبرى المتوقعة للأمن القومي الأمريكي خلال عام 2024.

وعلى الرغم من تعدد التهديدات والتحديات التي رصدها التقرير، فقد جاءت الصين أولًا، وهو ما تم تناوله في المقال الأول من هذه السلسلة، بينما جاءت روسيا الاتحادية ثانيًا، وهو ما تم تناوله في المقال الثاني، بينما جاءت إيران ثالثًا، وهو ما سيتم تناوله في هذا المقال.

فقد استعرض التقرير صور التهديدات والتحديات التي تمثلها إيران للأمن القومي الأمريكي، وذلك من خلال المحاور التالية: الأنشطة الإقليمية والعالمية، أسلحة الدمار الشامل، الجيش، عمليات التأثير السيبراني، ثم أهم التحديات التي تواجه السياسة الإيرانية خلال عام 2024 من وجهة نظر واضعي التقرير.

خرائط التمدد الإيراني وأدواته

حول الأنشطة الإقليمية والعالمية لإيران، ذكر التقرير أن إيران ستستمر في تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها ونفوذها في الشرق الأوسط، حيث تعتزم ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية مع تقليل التهديدات التي يتعرض لها النظام السياسي وخطر الصراع العسكري المباشر. لذلك ستحاول الاستفادة من النجاحات العسكرية الأخيرة من خلال شبكة الحلفاء، والمكاسب الدبلوماسية، والبرنامج النووي الموسع، والمبيعات العسكرية لتعزيز طموحاتها، وتعزيز العلاقات مع موسكو.

وأضاف التقرير “سوف تسعى إيران إلى استخدام الصراع في غزة للتنديد بإسرائيل، وشجب دورها في المنطقة، ومحاولة إثناء دول الشرق الأوسط الأخرى عن تحسين العلاقات معها، لكن من غير المرجَّح أن يخفي موقف إيران من الصراع التحديات التي تواجهها داخليًّا، حيث لا يزال الأداء الاقتصادي الضعيف والمظالم الاجتماعية بمثابة اختبار للنظام”.

وعن حلفاء إيران وأدواتها في المنطقة، قال التقرير إن عقودًا من تنمية العلاقات وتوفير الدعم والتمويل والأسلحة والتدريب لشركائها ووكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك حزب الله اللبناني والحوثيون والمليشيات في العراق وسوريا، ستُمكّن طهران من الاستمرار في إظهار قدراتها، وتعزيز الأعضاء في “محور المقاومة” الذي وصفه التقرير بأنه “اتحاد فضفاض من الجهات الإرهابية والمتشددة ذات التفكير المماثل”.

وكانت طهران قادرة على استعراض القدرات العسكرية للشبكة في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث نظمت هجمات مناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة، هجمات من لبنان إلى مضيق باب المندب مع حماية القادة الإيرانيين من عواقب وخيمة.

وإذا كانت إيران قد وسعت نفوذها الدبلوماسي خلال عام 2023 من خلال تحسين العلاقات مع روسيا والسعودية والعراق، وأبدت استعدادها لإعادة تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم توقيعها عام 2015 لتخفيف العقوبات، إلا أن دعم طهران المستمر للوكلاء “الإرهابيين” والتهديدات الموجهة إلى المسؤولين الأمريكيين السابقين (كما يرى التقرير) لم تُساعد على التوصل إلى اتفاق.

وحول مؤشرات التهديد الإيراني للمصالح الأمريكية يقول التقرير “ستواصل إيران تهديد الأشخاص الأمريكيين بشكل مباشر في الشرق الأوسط، وستظل ملتزمة بجهودها المستمرة منذ عقد من الزمن لتطوير شبكات بديلة داخل الولايات المتحدة”.

ومن ناحية ثانية، ستسعى إيران إلى استهداف مسؤولين أمريكيين سابقين وحاليين انتقامًا لمقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020.

ومن ناحية ثالثة، ستظل إيران تُشكل تهديدًا لإسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، وربما ستواصل تسليح ومساعدة حلفائها لتهديد الولايات المتحدة، إضافة إلى دعم حماس وآخرين يسعون إلى عرقلة تسوية سلمية بين إسرائيل والفلسطينيين.

ومن ناحية رابعة، ستظل إيران حريصة على تجنب الصراع المباشر مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، لكنها مكَّنت عشرات من هجمات المليشيات الصاروخية والطائرات المسيَّرة ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، وبين حزب الله وإسرائيل على الحدود مع لبنان، وصواريخ الحوثي وهجماته بالمسيَّرات سواء على إسرائيل مباشرة أو على السفن التجارية التي تعبر البحر الأحمر.

الطموح النووي الإيراني والردع الاستراتيجي

يقول التقرير إنه منذ عام 2020، صرحت إيران بأنها لم تعد مقيَّدة بأي قيود في خطة العمل الشاملة المشتركة، وقامت بتوسيع برنامجها النووي بشكل كبير، وقلصت المراقبة التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقامت بأنشطة تجعلها في وضع أفضل لإنتاج جهاز نووي، إذا اختارت القيام بذلك. وتستخدم إيران برنامجها النووي لبناء نفوذها التفاوضي والاستجابة للضغوط الدولية عليها.

وقامت طهران بمزج كمية من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وخفضت معدل إنتاجها بشكل كبير من يونيو/حزيران إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لكن -وفقًا للتقرير- ستستمر إيران في زيادة حجم ومستوى تخصيب مخزونها من اليورانيوم، وتطوير وتصنيع وتشغيل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، حيث تمتلك البنية التحتية والخبرة اللازمة لإنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة بسرعة، إذا اختارت القيام بذلك.

وأضاف التقرير “من المحتمل أن تفكر إيران في تركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تقدمًا، أو زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب، أو تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 90%، ردًّا على عقوبات إضافية أو هجمات أو انتقادات ضد برنامجها النووي، وربما تهدف إلى مواصلة البحث وتطوير العوامل الكيميائية والبيولوجية لأغراض هجومية”.

القدرات العسكرية الإيرانية والحروب الهجينة

يرى التقرير أن النهج الهجين الذي تتبعه إيران في الحرب -باستخدام القدرات التقليدية وغير التقليدية- سيشكل تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة في المستقبل المنظور، فالعمليات غير التقليدية التي تقوم بها بجانب شبكة الشركاء والوكلاء المسلحين، تساعدها في تحقيق مصالحها والحفاظ على العمق الاستراتيجي، وسوف تستمر القدرات الصاروخية والطائرات المسيَّرة وأسلحة الدفاع الجوي والبحرية الإيرانية في تهديد الأصول التجارية والعسكرية للولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط.

هذا بجانب أن إيران تمتلك أكبر مخزون في المنطقة من الصواريخ الباليستية، كما أن عمل إيران على تطوير مركبات الإطلاق الفضائية من شأنه أن يقلل الجدول الزمني لإنتاج صاروخ باليستي عابر للقارات، إذا قررت تطوير ذلك.

هذا بالإضافة إلى أن خبرة إيران المتزايدة واستعدادها للقيام بعمليات سيبرانية عدوانية تجعلها تهديدًا كبيرًا لأمن الشبكات والبيانات في الولايات المتحدة، كما يعرّض البنية التحتية الأمريكية لخطر الاستهداف، خاصة وأن هجماتها السابقة ضد أهداف إسرائيلية تُظهر أنها مستعدة لاستهداف الدول التي تتمتع بقدرات سيبرانية أقوى منها، وقد حاولت إيران إجراء عمليات تأثير تستهدف المصالح الأمريكية، بما في ذلك استهداف الانتخابات الأمريكية 2024، بعد أن أظهرت الرغبة والقدرة على القيام بذلك في انتخابات 2020 (وفقًا للتقرير).

تحديات الدور الإيراني في المنطقة

بعد أن استعرض التقرير مصادر التهديدات التي تشكلها إيران للأمن القومي الأمريكي وللمصالح الأمريكية في المنطقة، تناول عددًا من التحديات الداخلية التي تحد من قدرة النظام الإيراني على تحقيق أهدافه، إذ يشكل سوء الإدارة والعقوبات الدولية معوقات للاقتصاد، وتحد من قدرة النظام على توفير الدعم المحلي وتعزيز الشرعية.

فمن ناحية -كما ذهب التقرير- لا يزال الاقتصاد الإيراني يعاني ارتفاع معدل التضخم، وضغوط العقوبات الاقتصادية، وانخفاض قيمة العملة، وأغلب الأجور غير قادرة على مواكبة الأسعار المرتفعة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين، وستواجه إيران تحديات متزايدة بسبب تغيّر المناخ مع ندرة المياه.

ومن ناحية ثانية، فإن اعتماد إيران على عائدات تصدير النفط مع تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين -أكبر مستورد للنفط في إيران- يمكن أن يترتب عليه ضعف الإيرادات الإيرانية، ومن ثم احتمال ارتفاع العجز في الميزانية، مما قد يؤدي إلى خفض الإنفاق الحكومي على البنية التحتية بما في ذلك الطاقة والمياه.

ومن ناحية ثالثة، يشغل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي هذا المنصب منذ عام 1989، وهو في منتصف الثمانينيات من عمره، وقد يمثل رحيله تحديًا للنظام السياسي الداخلي، وخاصة مع الانقسامات السياسية والصراع بين النخب في مجتمع لم يمر سوى بمرحلة انتقال واحدة في السلطة للمرشد الأعلى (من الخميني إلى خامنئي).

جدل التهديدات والتحديات وحدود الفاعلية

مع ما استعرضه التقرير من مصادر التهديدات التي يمكن أن تشكلها إيران لمصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة، وتحديدًا إسرائيل، ثم التحديات التي تواجه السياسات الإيرانية، يمكن القول إن حدود الفاعلية لا تقاس فقط بما تمتلكه إيران من إمكانات وقدرات مباشرة، ولكن أيضًا بما يمتلكه حلفاء إيران ووكلاؤها في المنطقة، فإيران عززت من شراكاتها الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا خلال السنوات الماضية، عسكريًّا واقتصاديًّا ولوجيستيًّا، بجانب ترسيخ دورها المركزي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأصبحت تمتلك أوراق قوة حقيقية يمكن أن تُشكل أدوات ضغط وتأثير في العديد من الملفات، وهو ما ظهر في معركة طوفان الأقصى التي قامت بها حركات المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر 2023.

ومن ناحية ثانية، فإن تعدد الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف ومصالح إيرانية في سوريا والعراق، وأحيانًا في العمق الإيراني ضد علماء ومفكرين وسياسيين وعسكريين، سواء بالاغتيال المباشر أو الاستهداف السيبراني لعدد من القطاعات الاستراتيجية الإيرانية، وإعلان الولايات المتحدة عن دعمها غير المحدود وغير المشروط للكيان الصهيوني في مواجهة إيران، يمكن أن يكون محفزًا لتوسيع إيران دوائر حركتها في مواجهة أمريكا وإسرائيل، وألا تقف حدود المواجهة عند الشرق الأوسط، بل قد تمتد إلى نطاقات أوسع، وهي تمتلك القدرة على ذلك في شبكة التحالفات الإقليمية والدولية التي نجحت في بنائها خلال السنوات القادمة.

ومن ناحية ثالثة، فإن إعلان إيران عن حقيقة برنامجها النووي وقدراتها التسليحية النووية، قد يكون رادعًا للولايات المتحدة وإسرائيل، لأن إدارة الصراع مع قوة عسكرية نووية يختلف عشرات المرات عن إدارة الصراع مع قوة عسكرية تقليدية، ويزداد الأمر سوءًا في ظل السياقات الدولية الراهنة، وخاصة مع تداعيات معركة طوفان الأقصى، وتداعيات الحرب في أوكرانيا، وتداعيات موجة الانقلابات العسكرية التي ضربت دول منطقة الساحل الإفريقية، وما شهدته السنوات الأربع الماضية من تمدد روسي وصعود صيني، هذا بجانب ملف الانتخابات الرئاسية الأمريكية، نوفمبر 2024، وما يفرضه من ضغوط على إدارة بايدن وحلفائها إقليميًّا ودوليًّا.

المصدر : الجزيرة مباشر