التهديدات الكبرى للأمن الأمريكي: روسيا ثانيًا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الأناضول)

في الخامس من فبراير/شباط أصدر مجتمع الاستخبارات الأمريكي تقرير “تقييم التهديدات السنوي لعام 2024″، ونشره مكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية في 11 مارس/آذار 2024، وقد تناول التقرير التهديدات الكبرى المتوقعة للأمن القومي الأمريكي خلال عام 2024.

وعلى الرغم من تعدد التهديدات والتحديات التي رصدها التقرير، فقد جاءت الصين أولًا، وهو ما تم تناوله في المقال السابق، وجاءت روسيا الاتحادية ثانيًا، وهو ما نتناوله في هذا المقال.

ففي المستوى الأول للتهديدات الخاص بالجهات الفاعلة الحكومية، التي تشكل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي عام 2024، وبعد أن تناول التقرير صور التهديدات والتحديات التي تمثلها الصين، تناول مباشرة صور التهديدات والتحديات التي تمثلها روسيا، وذلك في ثمانية محاور أساسية: الأنشطة الإقليمية والعالمية، الصراع في أوكرانيا، الجيش، أسلحة الدمار الشامل، الفضاء الإلكتروني، عمليات التأثير الخبيثة، الفضاء، والتحديات.

روسيا بين التمدد جنوبًا وتراجع الهيمنة غربًا

حول الأنشطة الإقليمية والعالمية لروسيا الاتحادية، تناول التقرير عشرة نقاط أساسية، وذلك على النحو التالي (وفق النص الرسمي):

(1) ستظل روسيا خصمًا صامدًا وقادرًا عبر مجموعة واسعة من المجالات، وهي تسعى إلى إبراز مصالحها والدفاع عنها عالميًّا وتقويض الولايات المتحدة والغرب. ويشكل تعزيز علاقات روسيا مع الصين وإيران وكوريا الشمالية لتعزيز إنتاجها الدفاعي واقتصادها، تحديًا كبيرًا للغرب والدول الشريكة. وسوف تستمر روسيا في السعي وراء مصالحها بطرق تنافسية وأحيانًا تصادمية واستفزازية، وستمارس الضغوط للتأثير في الدول الأخرى في فضاء ما بعد الحقبة السوفيتية بدرجات متفاوتة.

(2) إن روسيا ليست راغبة في صراع عسكري مباشر مع قوات الولايات المتحدة وقوات حلف شمال الأطلسي، وسوف تستمر في نشاطها غير المتكافئ تحت ما تعتبره عتبة الصراع العسكري على مستوى العالم. وقد يعتقد بوتين أن روسيا قد أضعفت الجهود الأوكرانية لاستعادة أراضٍ كبيرة، وأن نهجه في كسب الحرب يؤتي ثماره، وأن الدعم الغربي والأمريكي لأوكرانيا محدود، خاصة في ضوء الحرب التي تدور رحاها حاليًّا بين إسرائيل وحركة حماس.

(3) لقد قلب بوتين النهضة الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية التي حققتها روسيا رأسًا على عقب، وألحق الضرر بسمعتها الدولية من خلال الغزو الواسع النطاق لأوكرانيا. ومع ذلك، فإن روسيا تنفذ بعض السياسات لتخفيف هذه التكاليف والاستفادة من العلاقات الخارجية لتقليل الأضرار المرتبطة بالعقوبات، وإعادة بناء مصداقيتها بوصفها قوة عظمى.

(4) إن الارتباط الاقتصادي العميق لموسكو مع بكين يوفر لروسيا سوقًا رئيسية للطاقة والسلع الأساسية، وحماية أكبر من العقوبات المستقبلية، وشريكًا أقوى في معارضة الولايات المتحدة. فالصين تُعَدّ إلى حدّ بعيد الشريك التجاري الأكثر أهمية لروسيا، حيث وصلت التجارة الثنائية بينهما إلى أكثر من 220 مليار دولار عام 2023، متجاوزة بالفعل إجمالي حجمها القياسي لعام 2022 بنسبة 15%.

(5) ستواصل موسكو توظيف جميع مصادر القوة الوطنية المتاحة لتعزيز مصالحها ومحاولة تقويض الولايات المتحدة وحلفائها، لكنها من خلال القيام بذلك ستواجه عددًا من التحديات، مثل الانفصال عن الأسواق والتكنولوجيا الغربية وهروب رأس المال البشري. وسوف يتراوح هذا بين استخدام الطاقة لمحاولة فرض التعاون وإضعاف الوحدة الغربية بشأن أوكرانيا، وبين الترهيب العسكري والأمني، والنفوذ الخبيث، والعمليات السيبرانية، والتجسس، والحيل.

(6) يسير الناتج المحلي الإجمالي لروسيا على مسار نمو متواضع عام 2024، لكن قدرتها التنافسية على المدى الطويل تضاءلت مقارنة بتوقعاتها قبل الحرب. فقد عملت روسيا على زيادة الإنفاق الاجتماعي، وهو ما أدى -ربما- إلى الحد من الردّ الشعبي العنيف، وزيادة الضرائب على الشركات، وهو ما أدى إلى تعزيز صمود الميزانية وخيارات التمويل.

(7) نجحت موسكو في تحويل معظم صادراتها النفطية المنقولة بحرًا، وربما تبيع كميات كبيرة تتجاوز الحدود القصوى لأسعار النفط الخام والمنتجات المكررة التي تقودها مجموعة السبع، التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول 2022 وفبراير 2023، على التوالي، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن روسيا تزيد استخدامها للخيارات غير الغربية لتسهيل تحويل معظم صادراتها النفطية المنقولة بحرًا وإلى أن أسعار النفط العالمية ارتفعت العام الماضي.

(8) سوف تحتفظ روسيا بقدر كبير من نفوذ الطاقة، ففي النصف الأول من عام 2023، كانت لا تزال ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، وأعلنت عن خفض صادراتها من النفط الخام ضمن التزامها بقرارات أوبك+.

(9) تعمل روسيا على التعويض عن تراجع علاقاتها مع الغرب من خلال توسيع علاقاتها مع الصين، وإيران، وكوريا الشمالية، ودول الجنوب الرئيسية.

(10) تُسلط الجهود المتجددة التي تبذلها أرمينيا ومولدوفا وبعض دول آسيا الوسطى للبحث عن شركاء بديلين، الضوء على مدى الضرر الذي ألحقته الحرب بنفوذ موسكو، حتى في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، بجانب أن عدم رغبة روسيا في إنفاق الموارد ورأس المال السياسي لمنع أذربيجان من استعادة ناغورنو كاراباخ من الأرمن العرقيين من خلال هجوم عسكري في سبتمبر/أيلول 2023، يُسلط الضوء على كيف أضعفت حرب موسكو في أوكرانيا دورها كمُحكِّم أمني إقليمي.

 

التقرير الأمريكي يعترف بالتفوق الروسي في أوكرانيا

حول الصراع في أوكرانيا، ذكر التقرير أن العملية العسكرية الروسية الخاصة “المزعومة” ضد أوكرانيا كبدت روسيا تكاليف كبيرة ودائمة، إذ إنها فشلت في تحقيق إخضاع أوكرانيا بشكل كامل، كما أنها حشدت الغرب للدفاع عن أوكرانيا، وكبدت روسيا أكبر خسائر عسكرية لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويواجه الجيش الروسي استنزافًا مُستمرًّا، ونقصًا في الأفراد، وتراجعًا في الحالة المعنوية، على الرغم من أن اعتماده على الألغام، وإعداد المواقع الدفاعية، والنيران غير المباشرة ساعده على إضعاف الهجمات الأوكرانية عام 2023.

وفي مقابل هذه التحديات يعترف التقرير بوضوح بأن الوضع الراهن في أوكرانيا يخدم المزايا العسكرية الاستراتيجية لروسيا، ويعمل على نحو متزايد على تحويل الزخم لصالحها، كما تعمل الصناعات الدفاعية الروسية بشكل كبير على تكثيف إنتاج مجموعة كاملة من الأسلحة الهجومية البعيدة المدى، وذخائر المدفعية، وغيرها من القدرات التي من شأنها أن تسمح لها بمواصلة حرب طويلة إذا لزم الأمر. وفي نفس الوقت (وباعتراف التقرير) “حقّقت موسكو مكاسب متزايدة ومستمرة في ساحة المعركة منذ أواخر عام 2023، وتستفيد من عدم اليقين بشأن مستقبل المساعدة العسكرية الغربية”.

الجيش الروسي قادم بقوة أكبر مما هو عليه الآن

يُعيد التقرير في موضع آخر التأكيد على أن القوات العسكرية الروسية ستشهد تعافيًا يمتد عدة سنوات بعد أن تكبّدت خسائر كبيرة في المعدات والأفراد خلال الصراع في أوكرانيا، وستكون موسكو أكثر اعتمادًا على القدرات النووية والفضائية المضادة للردع الاستراتيجي في حين تعمل على إعادة بناء قوتها البرية، وستستمر القوات الجوية والبحرية الروسية في زيادة قدراتها على استعراض القوة العالمية.

وإذا كانت خطط موسكو المعلنة لتوسيع قواتها البرية على نطاق واسع لن تُحقق الهدف المطلوب، فإنها -وفق التقرير- ستؤدي مع مرور الوقت إلى جيش أضخم، حتى وإن لم يكن أفضل نوعيًّا، فقد نجحت روسيا في تجنيد أعداد كبيرة من الأفراد المتعاقدين من خلال تقديم فوائد كبيرة، وستُوفر الزيادات المستمرة في الإنفاق الدفاعي تمويلًا كافيًا لزيادة القوى العاملة تدريجيًّا دون أن تضطر موسكو إلى اللجوء إلى تعبئة جنود الاحتياط.

ولفت التقرير إلى نقطة جانبية في غاية الأهمية، وهي دور شركات الأمن الخاصة، حيث نص على أنه “ستعتمد روسيا على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة والجماعات شبه العسكرية لتحقيق أهدافها في ساحة المعركة في أوكرانيا، وتعزيز القوات الروسية، ونقل الأسلحة وتدريب المقاتلين، وإخفاء يد موسكو في العمليات الحساسة، وبسط نفوذها وسلطتها في الشرق الأوسط وإفريقيا”.

وفيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل، أكد التقرير أن روسيا ستواصل تحديث قدراتها في مجال الأسلحة النووية، وأنها تحتفظ بأكبر مخزون من الأسلحة النووية وأكثره تنوعًا، وترى أن قدراتها النووية ضرورية للحفاظ على الردع وتحقيق أهدافها في صراع محتمل ضد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وترى في ذلك الضامن النهائي للاتحاد الروسي.

وسوف تستمر موسكو في تطوير صواريخ بعيدة المدى ذات قدرة نووية وأنظمة توصيل تحت الماء بهدف اختراق الدفاعات الصاروخية الأمريكية أو تجاوزها، وستعمل على توسيع وتحديث مجموعتها الكبيرة والمتنوعة من أنظمتها القادرة على حمل رؤوس حربية نووية أو تقليدية، وسوف تستمر كذلك في تشكيل تهديد بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية.

وفيما يتعلق بالفضاء الإلكتروني، يؤكد التقرير أن روسيا سوف تُشكل تهديدًا إلكترونيًّا عالميًّا دائمًا، حيث تنظر إلى العمليات السيبرانية باعتبارها أداة للسياسة الخارجية، وتقوم بتوظيفها لتشكيل قرارات الدول الأخرى، كما تعمل باستمرار على تحسين واستخدام قدرات التجسس، وتحافظ على قدرتها على استهداف البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الكابلات الممتدة تحت الماء وأنظمة التحكم الصناعية في الولايات المتحدة وكذلك في الدول الحليفة والشريكة.

 

الأدوات الروسية لتفكيك الجبهة الغربية

أشار التقرير، ضمن تناوله للتهديدات الروسية خلال عام 2024، إلى أن روسيا تشكل تهديدًا خطيرًا للنفوذ الغربي بسبب جهودها الواسعة النطاق لمحاولة تقسيم التحالفات الغربية، وتقويض مكانة الولايات المتحدة العالمية، وزرع بذور الشقاق داخل هذه الدول.

وكخطوة استباقية، لتوجيه الاتهام بعد ذلك إلى روسيا عند فشل الإدارة الأمريكية الراهنة في الانتخابات الرئاسية المقررة نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أشار التقرير إلى أن موسكو تنظر إلى الانتخابات الأمريكية على أنها فُرَص للتدخل في الشأن الأمريكي، ونظرًا إلى أنه يمكن أن تؤثر نتائج الانتخابات الأمريكية عام 2024 في الدعم الغربي لأوكرانيا، فستحاول روسيا التأثير في الانتخابات بطرق تدعم مصالحها وأهدافها على أفضل وجه، وقد قامت الجهات المؤثرة في روسيا بتكييف جهودها لإخفاء نفسها بشكل أفضل، كما تستخدم تقنيات جديدة، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتحسين قدراتها والوصول إلى الجماهير الغربية.

وفي سياق حرب الفضاء، تستخدم موسكو أقمارها الصناعية المدنية والتجارية للاستشعار عن بعد لتكملة القدرات العسكرية المخصصة، وقد حذّرت من أن البنية التحتية التجارية للدول الأخرى في الفضاء الخارجي المستخدمة لأغراض عسكرية يمكن أن تصبح هدفًا مشروعًا، ولذلك تواصل تدريب عناصرها العسكرية الفضائية ونشر أسلحة جديدة مضادة للأقمار الصناعية لتعطيل وإضعاف القدرات الفضائية للولايات المتحدة وحلفائها. كما تعمل على توسيع ترسانتها من أنظمة التشويش، وأسلحة الطاقة الموجهة، وقدرات الفضاء المضاد في المدار، وصواريخ مضادة للأقمار الصناعية الأرضية المصممة لاستهداف الأقمار الصناعية الأمريكية وأقمار حلفائها.

 

عندما تنصح الولايات المتحدة روسيا الاتحادية!!

في نهاية الجزء الخاص بروسيا الاتحادية، يقدم التقرير نصائحه للنظام الروسي، فيقول نصًّا “ربما تحتاج موسكو إلى الموازنة بين الإنفاق العسكري المتزايد والحاجة إلى إيرادات إضافية دون إثقال كاهل الشركات الخاصة المدعومة من الدولة أو الجمهور الروسي بتكاليف الحرب”.

وإذا كانت هذه النصيحة مهمة بالفعل، من المنظور الاستراتيجي لروسيا الاتحادية، فإن اللافت في التقرير هو التأكيد في معظم النصوص على قوة ومكانة وقدرات روسيا، ومحدودية التأثيرات التي تعرضت لها بسبب الحرب في أوكرانيا، وقد يكون هذا دقيقًا من الناحية الواقعية والعملية، وقد يكون مقصودًا ومبالغًا فيه لاستمرار الحشد الداخلي الأمريكي والغربي ضد روسيا وقدراتها، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، كان لافتًا تأكيد التقرير أن روسيا في النصف الأول من عام 2023، كانت لا تزال ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، وهي مفارقة غريبة في ظل التلويح الغربي المستمر بالحشد العسكري ضد روسيا، لأن استمرا ضخ الغاز الروسي يعني استمرار التبعية الغربية لروسيا، وتعزيز قدرات روسيا الاقتصادية.

ومن ناحية ثالثة، تطرق التقرير إلى دور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة والجماعات شبه العسكرية التي تعتمد عليها روسيا في إدارة جانب من عملياتها العسكرية في الخارج، وتجاهل التقرير أن أكبر دول العالم استخدامًا لهذه الأدوات وتقنينًا لدورها هي الولايات المتحدة ذاتها، وهو ما برز في حروبها في العراق وإفريقيا، وتليها فرنسا التي تمتلك شبكة ضخمة من هذه الشركات، تقف خلف معظم الانقلابات العسكرية التي تشهدها دول القارة الإفريقية.

وهو ما يتطلب في التحليل الأخير، المقارنة الدائمة والمستمرة بين ما استعرضه التقرير باعتباره مصادر لتهديدات الأمن القومي الأمريكي، وكل ما تقوم به الولايات المتحدة من سياسات وما تستخدمه من أدوات في نفس المجالات بشكل أكبر وأعمق مما لدى الصين وروسيا، بحيث يمكن أن ننتهي من هذه المقارنة إلى أن الولايات المتحدة هي المهدد الأكبر للأمن الدولي.

المصدر : الجزيرة مباشر