هل كان ابن حزم يؤسس لعدالة اجتماعية أم لفوضى؟

مئذنة على أنقاض مسجد في رفح دمره العدوان الإسرائيلي (رويترز)

 

لا يُعرف -على مدى التاريخ البشري كلِّه- دينٌ أو نظام استطاع أن يحقق العدالة الاجتماعية وأن يحمي الفقراء والمساكين من طغيان الرأسمالية مثل الإسلام، ومَن قرأ القرآن الكريم عَلِم كم هو معنِيٌّ بالإنسان! وكم هو صارم وحازم وحاسم في كل ما يتعلق بقيمة العدل! تلك القيمة المركزية المحورية في النظام الإسلاميّ بكل وجوهه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعَلِم كذلك أنّ العدالة الاجتماعية على وجه الخصوص محميَّةٌ في كتاب الله بنصوص كثيرة محكمة، وأنّ التكافل الاجتماعي والتراحم بين الناس من أعظم وأهم المعالم البارزة في دستور الأخلاق في القرآن والسنة.

بين النظرية والتطبيق

في الأزمنة التي يشيع فيها الفقر، وينزل بالناس ظلم كبير، تتواطأ عليه القوى المهيمنة على السلطة والثروة، ويبقى الأغنياء بمالِهِم بمنأى عن الفتن التي تجتاح الحياة وتعصف بالضعفاء كما تعصف الرياح العاتية بكل ما على ظهر الأرض مما خفّ وزنه دون ما ثقل وتعاظم، في أزمنة كهذه يظهر أمثال العالم “ابن حزم” والكونت “روبن هود”، الأول فقيه أندلسيّ يدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بسواعد المهمشين أنفسهم، والثاني محارب إنجليزيّ وضع أنموذجًا عمليًّا، وشكل فريقًا يقوم بسرقة أموال الفاسدين الذين هيمنوا على السلطة والثروة في نوتنغهام ببريطانيا؛ لصالح المهضومين.

الأصل الذي بنى عليه ابن حزم

امتشق ابن حزم حسام البرهان، وامتطى صهوة البيان، وانطلق يقرر الأصل: “فرضٌ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجبرهم السلطان على ذلك إنْ لم تقم الزكوات بهم.. وبرهان ذلك: قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}.. وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}، فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله».. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له»، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.. ومن طريق أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الجائع وفكوا العاني».. قال عمر: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين).. فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة”.

نظرية ابن حزم

كان الفقهاء قد قرروا أنّ “حق الشَّفَة” -وهو حق العطشان في الشرب وإرواء الظمأ- ثابت شرعًا، وأنّه لا يجوز لصاحب الماء أن يمنعه، فإن مَنَعَهُ فله أن يقاتله عليه، وهنا يحمل ابن حزم على من تردد من الفقهاء في إثبات الحقِّ ذاتِهِ للجائع، فقال: “ويقولون: مَن عطش فخاف الموت ففَرضٌ عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه؛ فأيّ فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش، وبين ما منعوه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري؟! وهذا خلاف للإجماع وللقرآن وللسنن وللقياس، ولا يحل لمسلم اضطُرّ أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي؛ لأنَّ فرضًا على صاحب الطعام إطعامُ الجائع؛ فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير.. وله أن يقاتِلَ عن ذلك، فإن قُتِل فعلى قاتِلِهِ القَوَدُ، وإن قُتِلَ المانعُ فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقًّا، وهو طائفة باغية، قال تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق”.

هل له من الفقهاء مؤنس؟

ولبقية المذاهب أقوال تفرقت في كتب الفروع، وتعرضت الموسوعة الفقهية الكويتية لتخليصها وتلخيصها على هذا النحو: “إذا استغاث المشرف على الهلاك من الجوع أو العطش وجبت إغاثته، فإن مُنِعَ حتى أشرف على الهلاك ففي المسألة رأيان: الأول قال به الحنفية: للمستغيث أن يقاتل بالسلاح، إن كان الماء غيرَ مُحرَزٍ في إناء.. فإذا مَنَعَ المستغاثُ بهم حقَّ المستغيثين بقصد إتلافهم كان للمستغيثين أن يقاتلوهم عن أنفسهم، فأما إذا كان الماء مُحرَزًا، فليس للذي يخاف الهلاك من العطش أن يقاتِلَ صاحب الماء بالسلاح، بل له أن يقاتله بغير سلاح، وكذلك في الطعام، لأنه ملك مُحرَزٌ لصاحبه.. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقاتل بالسلاح، ويكون دم المانع هَدَرًا”.

وورد فيها أيضًا: “قال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا ترك إنسانٌ إعانةَ مضطرٍ فَمَنَعَ عنه الطعام حتى مات، فإذا لم يقصد ذلك فعليه الضمان (أي: الدية)، وإنْ قصَدَهُ فَعَمدٌ (أي: فيه القِصاص) عند الشافعية والمالكية، وصرَّح الحنفية والحنابلة بجواز قتال المانعين للطعامِ والشرابِ غيرِ الْمُحرَزِ عن المضطرين له والمشرفين على الهلاك، لِمَا روي أن قومًا وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا، فسألوهم أن يعطوهم دلوًا فأبوا أن يعطوهم، فقالوا لهم: إنّ أعناقنا وأعناقَ مطايانا كادت تُقطَع فأبوا أن يعطوهم؛ فذكروا ذلك لعمر، فقال لهم عمر: فهلا وضعتم فيهم السلاح”.

الجويني يضع صمام الأمان

لكنّ الفقهاء لا يفوتهم ما فات ابن حزم، وهو الاحتراز من الفوضى ومن وقوع مظالم عكسيّة، ويضع الجوينيّ في “غَيَّاث الأمم” صمام الأمان هذا: “حق على قطان كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدّموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات”، فاللهم سلِّم.

المصدر : الجزيرة مباشر