كلمة شيخ الأزهر.. الرسائل الكبيرة

شيخ الأزهر أحمد الطيب (الفرنسية)

 

“إن عالمنا المعاصر فَقَدَ القيادة الحكيمة الرشيدة، وراح يخبط خبط عشواء بلا عقل ولا حكمة ولا قانون دوليّ، وبات يندفع بلا كوابح نحو هاوية لا يعرف التاريخ لها مثيلًا من قبل… أبطال هذه الصورة قادة سياسيون وعسكريون من ذوي القلوب الغليظة التي نزع الله الرحمة من جميع أقطارها، يقودون فيها جيشًا مدجّجًا بأحدث ما تقذف به مصانع أوروبا وأميركا من أسلحة القتل والدمار الشامل… وكل ما يعرفه شعب غزة البريء الفقير المحاصر هو أن أقداره شاءت أن يَلْقَى الله شهيدًا، وشاهدًا على جرائم الإبادة والمحرقة الجماعية، من طغاة القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، والذي بشرونا بأنه قرن العلم والتقدم والرقيّ”، كلمة ألقاها شيخ الأزهر في الحفل الذي أقيم بمناسبة ليلة القدر في حضور السيسي والنخبة السياسية والعسكرية، كلمة قوية في معناها ومبناها، فما الرسائل التي يرسلها؟

لا لوم ولا تثريب على المقاومة

لا تعجب إذا قيل لك: إن ما سكت عنه شيخ الأزهر في كلمته هذه -وفي بياناته كلها التي صدرت له من قبل بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة- أبلغ بكثير مما نطق به، وأكثر إيلامًا للقوى والأنظمة القريبة والبعيدة التي تتآمر على المقاومة وعلى القضية الفلسطينية، فكم كانوا يتمنون من شيخ الأزهر أن ينساق وراء الكثيرين من أصحاب الخطاب المنحرف، والذين يحَمِّلون “حماس” والمقاومة تبعة ما جرى للشعب الغزاوي الأعزل البريء، وهذا ما لم يؤيده الشيخ ولو بشطر كلمة، ومِثْلُ شيخ الأزهر لا يُنظر فقط إلى ما قاله، وإنّما يُنظر أيضًا إلى ما سكت عنه، وكما قيل: “السكوت في معرض الحاجة بيان”.

إنه لمن العجز والظلم معًا أن يقال: إن ما جرى يوم السابع من أكتوبر كان استعجالًا لمواجهة غير متكافئة، لأن الذين يقولون هذا ليست بلادهم عاجزة -ولو بمجموعها- عن المواجهة، وإذْ تخلَّفَتْ عن الواجب الكبير فلا يحق لها أن تمارس التنظير السلبيّ ضد فئة تقوم بالواجب الذي عجز عنه الجميع.

من القمة السامقة إلى الهاوية السحيقة

وقد افترض شيخ الأزهر أن ادعاءات الغرب -وعلى رأسه بالطبع أمريكا الداعمة أبدًا لإسرائيل- صحيحة وواقعية، وانطلق يقارن بين المنطلقات والمآلات، فمن القمة السامقة التي شهدت الدعاوى الكبرى إلى الهاوية السحيقة التي انحدر إليها الجميع بممارساتهم الإجرامية ضد الإنسانية في غزة، والحقيقة أن البون شاسع من اللحظة الأولى بين الدعاوى المبشرة والواقع المؤلم المخيف، ولعل الشيخ أراد أن يحاكمهم إلى ما ادعوه لأنفسهم، فعلى حدّ تعبير توماس باترسون: “اعتقد كثير من الرسميين في حكومة الولايات المتحدة أن رسالتهم ليست قاصرة على الحفاظ على الحضارة، بل وأيضًا العمل على نشرها إلى أبعد أركان المعمورة، واستلزم هذا أن يتوفر لدى جميع الأمريكيين تقييم وتقدير عميقان للرأي القائل: إنّ مجتمعهم ليس فقط مجتمعًا استثنائيًّا فريدًا، بل إن أبناء هذا المجتمع أيضًا هم شعب مختار، اختاره الربّ لمهمة إنجاز رسالته سبحانه وتعالى لنشر الحضارة”، لكنْ: شتّان بين الشعارات البراقة الرقراقة والواقع الأليم الوخيم.

إن أمريكا التي تقود العالم اليوم ولا تزال تنفرد فيه بالهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية -ولعل الشيخ قصدها بالدرجة الأولى- هي التي تجرّ الكرة الأرضية إلى الهاوية، وإذا كان جورج فريدمان قد تنبأ من قبل بما ستشعله من حروب لتستديم تفردها بالهيمنة عندما قال: “فالولايات المتحدة التي دائمًا ما تكون موغلة في عدوانيتها من وجهة النظر الأوروبية، ستثير مشكلات غير ضرورية في أوروبا الشرقية كتهديد للروس”، فإن مثل هذه التنبؤات التي صدقها الواقع تشير إلى أن المفكرين في الغرب يدركون من زمن بعيد ما تنطوي عليه الادعاءات الأمريكية من زيف ورياء.

وإن مما يزيد حالة التشاؤم استفحالًا أن هناك شبه إجماع من مفكري الغرب أنفسهم على أن ثمَّ خطرًا يهدد نظام الحياة كله -وليس الديمقراطية فقط-، وهو طغيان الرأسمالية التي تحصل مكاسبها من صناعة السلاح وتسويقه قبل كل شيء، والتي تقوم بخلق الحروب لتنفخ حافظة النقود، وكما يقول ألان دونو: “لنتفق على أن النظام الذي نجد أنفسنا فيه الآن ما عاد يهدد الديمقراطية، لقد نفذت هذه التهديدات فعلًا، لنسمي هذا النظام: أوليجارشية – طغيان برلماني – شمولية مالية – أو أي شيء آخر”.

شهداء أم شهود

أجل والله.. إنهم كما وصفهم الشيخ: شهداء وشهود، شهداء في سبيل الله قدموا أرواحهم فداء قضية من قضايا الحق، فقد كان بإمكانهم أن يستجيبوا لضغوط التهجير ليسْلَموا من الموت المحقق المحدق، ولكنهم أعلنوها صريحة: لن نكرر نكبة 48 ولن نترك ديارنا ولو تهدمت فوق رؤوسنا، وها هي البيوت قد تهدمت فوق أشلائهم، وها هو الموت يحصد العائلات تلو العائلات فلا يترك منها من يخبر عنها، فما أسعدهم بالفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وشهود على أن حضارة الإبادة والإلحاد في طريقها إلى الأفول، بل إلى الهاوية كما عبّر الشيخ.

وعلى الرغم من أن شيخ الأزهر لم يقل كثيرًا مما ينبغي أن يقال، ولا سيما المطالبة بفتح المعابر، على الرغم من ذلك لم تكن الكلمة هيّنة، ولا يلام من قال ثلاثة أرباع الحقيقة على أنه ترك ربعها، وإنما يلام من لم يقل شيئًا من الحقيقة، أمّا من قال بخلاف الحقيقة فنعوذ بالله ونعيذ أمتنا بالله منه، المهم أن الأمة لا تزال تنتظر من الأزهر ومن الهيئات العلمائية جميعها المزيد من البيان الذي لا يدع الجيل حائرًا تجاه القضايا الكبرى.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر